أحمد الشريف يكتب: التّوريث وقتل عُمر بن عبد العزيز!.
جمع رسولُ الله ﷺ مجموعة من أصحابه في حديث واحد وبشرهم برضوان الله وجنته قائلا: «أبو بكر في الجنة وعمرُ في الجنة وعثمانُ في الجنة وعليٌّ في الجنة وطلحةُ بن عبيدِ اللهِ في الجنة والزبيرُ بنُ العوامِ في الجنة وأبو عبيدةُ عامرُ بنُ الجراحِ في الجنة وسعدُ بن أبي وقاصٍ في الجنة وسعيد بن زَيد في الجنة وعبد الرحمنِ بن عوفٍ في الجنة».[١].
فكان هؤلاء هم العشرة المبشرون بالجنة من المهاجرين السابقين للإسلام، الذين مات النبيّ الكريم وهو عنهم راض..
وعندما طعن أبو لؤلؤة المجوسي -لعنه الله- الخليفة الراشد عُمر بن الخطاب رضى الله عنه، كان قد سبقه بالموت الخليفة الأول أبو بكر الصديق ثم أمين الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح رضى الله عنهما، وتبقى السبعة المذكورون في الحديث..
فلما سُئل عُمر عن خليفته لحكم المسلمين، جعل أمر الخلافة شورى في ستة منهم، هم عثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، ولم يُدخِل معهم “سعيد بن زيد” رغم فضله وسبقه، لأنه كان من بني عدي (قوم عُمر) وزوج أخته “فاطمة بنت الخطاب” حيث كان من سنته الراشدة إبعاد أهله وذويه عن كافة مناصب الدولة ومنعهم من التمتع بأي نفوذ دون الرعية وعامة المسلمين، وقد ظهر ذلك جليًّا في وصيته التنظيمية لاختيار الحاكم من بعده عندما ذَكر ابنه عبد الله الذي كان من أكثر الصحابة رواية لحديث رسول الله واستنانًا بسنته: «يحضركم “عبد الله” للمشورة وليس له في الأمر شيء»!.[٢]. كما أمر أن يُصلّي “صهيب الرومي” بالناس إلى أن يتفقوا على خليفتهم، حتى لا تكون الإمامة في الصلاة إشارة بالإمامة في السياسة والحكم!..
فهكذا كانت سنة الحكم الإسلامي المزدهر بالعدل والإحسان، قبل أن يُسيطر عليه أصحاب الأهواء ويجعلونه جبرا ومُلكا موروثًا على سنة الإمبراطوريات المتجبرة في الأرض، وقبل أن يقوم والي المدينة “مروان بن الحكم” -بأمر من معاوية- خاطبًا في الناس: «إن اللّه أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَزِيد رَأْيًا حَسَنًا، فأراد أن يستخلفه من بعده، فإنها سُنَّة أبي بكر وعُمر!.. فقام عبد الرحمن بن أبي بكر قائلًا: «كذبت واللّه يا مروان.. وكذب معاوية.. ما الخِيار أردتما لأمة محمد.. بل سُنَّة هِرَقْل وقيصر.. فإِنَّ أَبَا بَكْرٍ مَا جَعلَها فِي أَحَدٍ من ولده ولا في أهل بيته، وما جعلها معاوية إلا كَرَامَةً لِوَلَدِهِ!.»[٣].
ونتج عن ذلك قتل الحسين بن علي (٦١هـ) سيد شباب أهل الجنة، وجماعة من أصحاب رسول الله وسادات التابعين رضي الله عنهم، كما تم انتهاك الحرمات في المدينة المنورة وضربت بالمنجنيق الكعبة المشرفة، وتفرّق المسلمون إلى فرق وأحزاب متناحرة، شيعة وسُنة، من زيدية وجعفرية إلى معتزلة وخوارج ومرجئة وغيرها..
فصارت عملية توريث الحكم واحدة من أكبر أبواب الشرور التي فُتحت على هذه الأمة عبر تاريخها، والجريمة المُوبِقة التي حرمتها من ميزة السبق السياسي والتفوق على أمم العالمين في الصين وفارس وبلاد الروم، وقتلت مبدأ الشورى الذي فرضه القرآن العظيم وسنة الراشدين. وأسست لإقطاع أُسري تميز فيه بنو أمية وبنو العباس وأحفاد عثمان بن أرطغرل عن غيرهم من أبناء الأمة الإسلامية عبر التاريخ!.
ومن أبلغ ما قرأت في هذا الشأن قول الشيخ الجليل صاحب البصيرة محمد الغزالي (١٩١٧ – ١٩٩٦م): «لا نعرف من كتاب الله ولا سنة رسوله ﷺسندا لهذا الإقطاع السياسي الرهيب، ولا ندرى لما امتد في آفاق الإسلام هذا الدخان الخانق الكئيب؟!.. لكن الذي ندريه جيدا أن أمر المسلمين شورى بينهم، وأنه ليس لأحد أن يفتات عليهم أو يستبد بهم، وأن الشعوب تختار أكفأ رجل فيها لتُلقي إليه زمامها، وأنها تسأله عما اؤتمن عليه، وتدنيه أو تقصيه حسب سيرته فيها. وأن أبناء هذه الأُسَر حكموا فقل فيهم القوي الأمين وكثر فيهم الفجرة الخونة، وكانت مقاليد الحكم تصل إليهم ميراثًا مقررًا. وإن أول من ابتدع هذه البدع وغرس شجرتها المشئومة كان “معاوية بن أبي سفيان”!..».[٤].
وهكذا كانت الخلافة من قبل عمر بن العزيز (٦١ – ١٠١هـ)، قد شابها الصراعات السياسية والفكرية التي أخذت تمزق نسيج الدولة وتقطع روابط المجتمع، وكانت سجون الخلافة فضلا عن مقابرها تستقبل وفود الذين جرمتهم الدولة سياسيا وفكريًا!.
وهو ما استشعره عُمر بنفسه أثناء خلافة ابن عمه الوليد بن عبد الملك، حين قال: «الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وأخوه محمد بن يوسف باليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن شريك في مصر، امتلأت الأرض والله جورًا، اللهم أرح الناس»!.[٥]..
فكان هذا الوعي بفداحة الظلم الواقع على الرعية وبالاستعلاء من جانب ولاة الأمر الذين ورثوا حكم المسلمين كما يرث الرجل ماشية أبيه وأنعامه، هو الدافع الأساسي وراء أول خطاب للخليفة العادل فور توليه أمر المسلمين في شهر صَفَر سنة ٩٩هـ، حيث خطب في الناس قائلا: «إن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في كتابها ولا في نبيها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحدا باطلا، ولا أمنع أحدا حقا، ثم رفع صوته فقال: أيها الناس.. من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم».
كما بلغ إحساسه بالمسئولية أنه لما رجع من دفن سلفه سليمان بن عبد الملك، رآه الناس مهموما كئيبا بمآل الملك إليه بدلا من أن يكون سعيدا مغبوطا بفوزه بالعرش الذي يَقتلُ الأخُ أخاه من أجل الجلوس عليه، فلما سألوه عن السبب قال: «ليس أحد من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في شرق الأرض ولا غربها إلا وأنا أريد أن أؤدي إليه حقه من غير طلب منه»!.[٦].
ومن ثم استشعرت الأمة بهذا الكلام الذي لم يقل به أحد من ملوك بني أمية قبل عُمر، إيذانًا بعهد جديد يمثل الفارق الجوهري بين الخلافة الراشدة والملك الجبري. إذ أنه يتطابق في جوهره مع ما قاله الخليفة الراشد الأول من حقائق أساسية يجب إعلانها والالتزام بها، إذا ما أريد للقيادة الجديدة أن تواصل السير على الدرب الذي بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث الخليفة رجل من الناس، وواحد من جماهير الأمة، منحته باختيارها الولاية عليها وهو وإن كان من روافد البيت الحاكم فهذا لا يعني أنه رجل فوق سائر الناس، من طينة أخرى غير طينتها، كما تصور الناس أو صُوّر لهم في عصور الوثنيات والصنميَّات، وظلال الله المُدّعاة في الأرض!.[٧].
ولذلك كانت أكبر المواجهات الشرسة والشّاقة على عُمر بن عبد العزيز هي التي خاضها ضد أمراء بني أمية وعمال دولتهم العميقة، حيث كان منهجه في الحكم وبالا عليهم لاحتجامهم أموال الأمة بغير حق واِستِحواذهم على نفوذ السلطان دون غيرهم من المسلمين خلال نصف قرن ماضية منذ تأسيس دولتهم على يد معاوية بن أبي سفيان سنة ٤٠هـ.
في نفس الوقت الذي استكان لعدله كل الطوائف الثائرة من قبل سواء آل البيت من الهاشميين وشيعتهم أو المعتزلة وأنصارهم وحتى الخوارج الذين لم يرضخوا لأحد من قبل!.
فقال عنه أبوعلي الجبائي إمام المعتزلة: «إن عمر بن عبد العزيز كان إماما لا بالتفويض المقدم، ولكن بالرضا المتجدد من أهل الفضل»… وبعبارة إمام آخر من أئمتهم هو عمرو بن عبير: «إن عُمر بن عبد العزيز قد أخذ الخلافة بغير حقها، ولا باستحقاق لها. ثم استحقها بالعدل حين أخذها»!.[٨].
فالمعتزلة قد أدانوا فكر “الجبر والإرجاء” الذي استندت إليه سياسة الدولة الأموية وما أحدثته من نقل لنظام الحكم من خلافة شورية إلى ملك عضوض.. وهى النقطة التي اتفق فيها معهم مذهب الخوارج الذين كانوا مع اتخاذ الاختيار والبيعة سبيلا لتنصيب الإمام بغض النظر عن نسبه ولونه، وضد فكر الشيعة في الوصية والنص عليه من السماء!.[٩].
ومن أجل ذلك كانت المناظرة الأخيرة في عهد عُمر بينه وبين وفد من أنصار الخوارج والتي نبرز منها ذلك السؤال الخاص بتوريث الحكم في قولهم: «أخبرنا عن يزيد بن عبد الملك (ولي العهد بعد عُمر) ألم تقرّه خليفة بعدك»؟!.
فرد عليهم عُمر: « لقد صيّره غيري»!. (يعني سليمان الخليفة السابق).
قالوا: أفرأيت لووُلِّيتَ مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك أديت الأمانة لمن ائتمنك؟!.
فأُسْقِط في يد عُمر الذي ما كان يجادل ليفحم خصومه بالحق أو بالباطل وإنما يبغي وجه الله ونصرة الحق وصالح المسلمين، فلما رأى الحجة ظاهرة في كلام الخوارج لم يكابر، بل طلب من مناظريه مهلة ثلاثة أيام لإعادة النظر في أمر الخلافة من بعده!.
صحيح أن “سليمان” هو الذي عهد إليه بالخلافة وجعل من بعده “يزيد” في نفس البيعة. ولكن طالما أن العهد قد وقع لغير أمين وبصورة غير شرعية فلا يصح للخليفة الأمين أن يقره!.
فلما علم أمراء البيت الأموي بذلك جزعوا وخافوا على ما بين أيديهم وفقدان العهد القادم –في ظل يزيد بن عبد الملك– الذي ينتظرونه ليسترجعوا سيرتهم الأولى وأموالهم التي منعهم عمر إياها. ومن ثم بيتوا أمرهم وبادروا إلى دس السم له في الشراب فمات رضى الله عنه قبل انقضاء الأيام الثلاثة التي تواعد مع الخوارج بعدها على إصدار القرار.. ثم انقضوا على معسكر الخوارج الذين أدركوا بداهة واستنتاجا أن الهجوم المباغت الغادر عليهم ما كان له أن يحدث لو أن عمر لا يزال حيّا، فقالوا: «ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح»!.[١٠]
وقد اتفق عمدة المؤرخين العلامة “ابن الأثير” مع تلك الرواية التي أودت بحياة الخليفة الراشد، إلا في جزئية صغيرة ثانوية، حيث ذكر استحسان الخوارج لقول عُمر وحكمه وإقرارهم له بعد المناظرة، ولكن عمر مَا فَتِئَ يقول: «أهلكني أمر يزيد وخصمت فيه فاستغفر الله»، فخاف بنوأمية أن يخرج ما بأيديهم ويخلع يزيد من ولاية العهد فوضعوا على عُمر من سقاه سُمًّا فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثا حتى مرض ومات!.[١١]..
رحم الله عُمر بن العزيز الذي أبطل الله به حجج الطغاة وعلماء السلاطين الذين قالوا للناس -تعجيزًا- كونوا صحابة كرعية عمر بن الخطاب نقوم فيكم بسيرته وعدله، فجاء عُمر بن عبد العزيز وحكم نفس الرعية الذين جار عليهم الحجاج بن يوسف الثقفي وسيّداه عبد الملك وولده الوليد من بعده!.
وأبطل حجج دعاة تزييف الوعي وتسويد التاريخ بعدم جدارة الشريعة الإسلامية وكفايتها لانتشال الرعية من الفساد والفقر وإصلاح الأمة..
كما دحض أعذار دعاة تغييب الوعي وتبييض ما حقه النقد والتجريح الذين قالوا إن تاريخ بني أمية تم تشويهه في عهد العباسيين، فلماذا لم يتشوه تاريخ عُمر بن عبد العزيز الخليفة الثامن في سلسلة حكام البيت الأموي الأربعة عشر؟!.
فضلا عن إثباته أن العدل مع الحزم هو سبب استقرار الأمة وانصياع الثوار والخوارج وهدوء الرعية وليس السيف والبطش كما يظن قصار النظر الذين يعظمون نموذج الحجاج الثقفي قديما وصدام حسين حديثا في حكم أهل العراق!.[*].
كتبه الفقير إلى عفوالله/ أحمد الشريف
#معركة_الوعي_أم_المعارك
هوامش المقال:
[١] صحيح ابن حبان: حديث رقم ٧٠٠٢، وأيضا سنن الترمذي: حديث رقم ٣٨٣٠.
[٢] مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام ابن تيمية، طبعة دار الوفاء-المنصورة، جـ٤ صـ٢٦١، الطبعة الثالثة سنة ٢٠٠٥م.
[٣] فتح الباري شرح صحيح البخاري، الحافظ ابن حجر العسقلاني، كتاب التفسير، حديث رقم ٤٥٥٠، والكامل في التاريخ، الإمام ابن الأثير، جـ٣ صـ٣٥١، تحقيق أبي الفداء القاضي، دار الكتب العلمية بيروت سنة ١٩٨٧م.
[٤] من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي، محمد الغزالي، صـ١٠٤، طبعة نهضة مصر!.
[٥] تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، شمس الدين الذهبي، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، طبعة بيروت ٢٠٠٣م.. تاريخ الإسلام، الذهبي، جـ٢ صـ١١٦٦، وفتوح البلدان، البلاذري، ص١٠٠، طبعة مؤسسة المعارف بيروت، تحقيق عبد الله أنيس الطباع..
[٦] الخلافة والملك، أبو الأعلى المودودي، صـ١٠٤، صـ١٠٥، طبعة المختار الإسلامي سنة ١٩٩٥م، نقلا عن البداية والنهاية لابن كثير والكامل في التاريخ لابن الأثير.
[٧] بتصرف من كتاب “حول القيادة والسلطة في التاريخ الإسلامي”، الدّكتور عماد الدين خليل، صـ١٥، مكتبة النور القاهرة، سنة ١٩٨٥م.
[٨] عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، د/ محمد عمارة، صـ٢٨، دار الهلال، طبعة سنة ١٩٧٨م.
[٩] الإسلام والثورة، الدكتور محمد عمارة، صـ٢١٤، صـ٢٣٤.. دار الشروق، ط.الثالثة سنة ١٩٨٨م.
[١٠] محمد عمارة، (مصدر سابق) صـ٣٢ وما بعدها، نقلا عن الطبري ج٦ ص٥٥٥ وما بعدها، وطبقات ابن سعد ج٥ ص٢٦٤.
[١١] الكامل في التاريخ، الإمام ابن الأثير، جـ٣ صـ٣١٩، تحقيق أبي الفداء القاضي، دار الكتب العلمية بيروت سنة ١٩٨٧م.