مقالات

أسامة الهتيمي يكتب: إلى أهل مصر.. التيسير أو الخراب

كلما تأملت مسألة تكاليف وأعباء الزواج في وقتنا الحالي أصابتني كآبة وحسرة متسائلا بيني وبين نفسي كيف للشباب في ظل ما نمر به من ظروف اقتصادية غاية العصوية أن يتحصل على هذه التكاليف بل كيف له أن يتحصل على ربعها قبل أن يتم الثلاثين عاما من عمره دون أن يتلقى المساعدة والدعم من أهله -إن كانوا يستطيعون- أو يعمل عملا غير شريف أو يهاجر مضطرا لبلاد بعيدة يفني فيها أحلى سنوات العمر بحثا عن المال لتلبية متطلبات الزواج الذي هو أهم احتياجات السنوات التي ضاعت؟!

أعرف أنني بتلك الحالة لست فريدا من نوعه فهذه المشاعر التي تتملكني تتملك الكثيرين غيري ممن يحزنهم ما آلت إليه أوضاعنا والذين يدركون خطورتها كونها رسالة شديدة السلبية ودعوة قوية وصريحة للشباب للإحجام عن الإقبال على الزواج الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام الكثيرين من هؤلاء الشباب لانتهاج سلوكيات منافية لتوجيهات وقيم ديننا خاصة وأن هذا الفضاء الواقعي والافتراضي أصبح متاحا ميسورا.

ما أشرت إليه لا يحمل أية مبالغة على الإطلاق فقد بات مثلا وبكل أسف من المعتاد أن نسمع بين الحين والآخر عن حادثة العثور على طفل لقيط وجده المارة في شارع أو على سلم عمارة سكنية أو ملقى فوق كومة من القمامة أو حتى أمام باب مسجد من المساجد وهي الحادثة التي لم تعد مقصورة على المدن الكبيرة بل طالت القرى والأرياف وبوضوح شديد في الآونة الأخيرة.

والأخطر في الأمر أنه لم يعد يثير الكثير من اللغط كما كان قبل عقد أو أقل من ذلك إذ يبدو أن الناس قد اعتادت سماع مثل تلك الحوادث بشكل متكرر حتى أصابت بعضهم حالة من الفتور مع سماع أنباء وقوعها ما يعني ببساطة شديدة أن ذلك أدى إلى تراجع مشاعر الاستياء والاستهجان ودفع ضعاف النفوس إلى استسهال الوقوع في فخ ارتكاب هذه الجريمة.

شخصيا لا أنسى أبدا ما تعرضت له في العام 2006 وكنت لا زلت أقيم وأسرتي في أحد أحياء مدينة حلوان بالقاهرة إذ وعند ذهابي لصلاة الفجر في المسجد المجاور لسكني رأيت «كرتونة» على باب سور حديقة المسجد استوقفتني لثواني لكنني قلت في نفسي ربما أحد العمال يحمل «عدته» وما أراد أن يدخل بها المسجد فوضعها على باب المسجد غير أنني وخلال أدائي للصلاة كنت بين الحين والآخر أتذكر «الكرتونة» ويلح علي فضولي في أن أعرف ما بداخلها فسارعت وفور انتهائي من الصلاة لباب الحديقة لاستطلاع ما بداخل الكرتونة فإذا بأعلاها فتحة صغيرة تطل من خلالها عينا رضيع صغير ففزعت بشدة وسرت في جسدي قشعريرة ودارت رأسي وشعرت أنني أمام مشهد من فيلم عربي قديم لكن سرعان ما انتبهت وعدت لداخل المسجد قبل أن ينفض المصلون الذين كانوا يلتفون حول الإمام يستمعون لدرسه فقلت للإمام – وكان صديقا لي – يا شيخنا يوجد بالخارج «كرتونة» بها رضيع فانتفض الجميع مسرعين إلى حيث “الكرتونة” ليفتحها أحدهم ونكتشف أن بداخلها بالفعل رضيع ذكر عمره أيام وهو ما أثار فزع الجميع واستشعروا حالة خوف من أن يحل علينا غضب من الله جراء مثل هذا الفعل..

الشاهد من سرد هذه القصة أن اليوم لم تعد مشاعر الناس كما كانت فظني أنها تبدلت وكأن العثور على رضيع لقيط أضحى أمرا عاديا ربما يستهجنه قطاع من الناس بالفعل لكن في مقابل ذلك تتزايد الظاهرة ويرتفع عدد هؤلاء الأطفال عام بعد عام وهو ما تخبرنا به الدراسات والإحصائيات ففي دراسة للباحثة فاطمة مجدي بجامعة بنها حول هؤلاء الأطفال في الفترة من عام 2000م إلى 2012 كشفت الباحثة عن أن عددهم في عام 2000 كان نحو 10653 ثم تزايد العدد في عام 2012 ليصل إلى نحو 23981 طفل وهو ما دفعها إلى القول إن هذا التزايد إن دل على شيء یدل على الخطورة التي تهدد کیان مجتمع بل تهدد کیان دولة بالکامل ومازال التزاید مستمر في أعداد الأطفال مجهولي النسب.

ما حذرت منه الباحثة في دراستها بناء على أرقام تعود لأكثر من 12 عاما هو عين ما نشهده في الوقت الحالي فالظاهرة بالفعل في تزايد شديد وليس ثمة ما يمكن أن يدعونا إلى التفاؤل حيالها فالمسألة إذن خطيرة للغاية وتحتاج لوقفة قوية من الدولة والمجتمع على السواء.

على مستوى الدولة يجب أن تتغير نظرتها للقضية فلا تنأى بنفسها عن التدخل معتبرة أنها قضية مجتمعية لا علاقة لها بها إذ هي مطالبة وبكل قوة بأن يكون لها دور في التخفيف من هذه الأعباء كأن تمنح الشباب المقبل على الزواج قروضا بلا فائدة أو تخصص قاعات أفراح و”سيشن” بأسعار غير مبالغ فيها أو تفعل من مبادرات حفلات الزواج الجماعية أو تشجع رجال الأعمال على دعم غير القادرين أو تتبنى حملات إعلامية عبر وسائل الإعلام المملوكة لها للتوعية بخطورة الحال وضرورة التيسير.

وأما على المستوى المجتمعي فإن المجال متسع وأكبر من أن يتم حصره فللوعاظ والدعاة مثلا دورهم إذ هم وبدلا من إلهاء الناس في تناول موضوعات لا تمس حياتهم من قريب أو بعيد مطالبون بأن يتفاعلوا بشكل أكثر إيجابية مع قضايا وهموم المجتمع وأبرزها معضلة زواج الشباب فليس أقل من أن يؤكدوا مرارا على التيسير ويحذروا من تعنت الآباء وأولياء الأمور وتداعياته وأن لا يملوا من تسليط الضوء على نماذج مضيئة لشخصيات من تاريخنا العربي والإسلامي اتسمت حياتها بالزهد والبساطة.

كذلك فإن الجميعات الأهلية والفاعلين في المجتمع والشخصيات ذات الحيثية الاجتماعية مطالبة بأن تلتفت للقضية كأن تدعم وبكل ما تملك مبادرات تخفيف الأعباء والبحث عن بدائل لمظاهر البذخ والإنفاق في التأسيس والأعراس وأن يحرص بعضهم على أن يكونوا بأفراحهم وأعراسهم نماذج حية تدفع البعض لتقليدهم وعدم الشعور بالدونية وأن يحاربوا تلك التقاليع المستحدثة كل يوم والتي لا فائدة منها إلا زيادة الأعباء على كاهل أهل العروسين.

وهكذا للمدرسة وللجامعة دورهما وللإعلام بمختلف أشكاله دوره وللكتاب والصحفيين دورهم فالقضية عامة وخطيرة والتي وصلت إلى حد أنها يمكن أن تعطل سير المجتمع بشكل سوي.

وليكون حديثنا عمليا وواقعيا يجدر بنا أن نشير إلى بعض المظاهر التي تمثل عبئا جسيما على المقبلين على الزواج من الطرفين والتي بقليل من التأمل وتحكيم العقل والمنطق نجد أنه بإمكاننا أن نتخلص منها أو نبحث عن بدائل أخف وطأة ومنها مثلا تلك البدعة الجديدة التي استحدثها بعض أهل الريف والخاصة بضرورة أن يقدم أهل العروس بعض الهدايا لأم الزوج وهي البدعة التي لو نظرنا إليها بحيادية وموضوعية لوجدنا أنها ليست إلا رشوة يقدم أهل العروس بهدف شراء رضا أم الزوج على الزوجة الجديدة.

ومن مظاهر الأعباء أيضا إصرار أهل العروسين على أن يمتلك العروسان ومع بدء حياتهما ليس كل ما يحتجانه فقط بل ما يمكن أن يكفي حاجتهما طول العمر فضلا عن وسائل الرفاهية فعدد المناشف بالعشرات وهكذا مفارش الأسرة وهكذا أدوات المطبخ التي تتضمن مثلا طقم «بايركس» و«جرانيت وسيراميك» و«استالس» و«ألومونيوم» و«تيفال» و«إير فراير» وهكذا الأغطية والمراتب فضلا عن «النيش» وغير ذلك بل ويصر الكثيرون على أن يكون من الحجرات الخمس أو الست حجرة للأطفال رغم أنهما لم ينجبا بعد في حين أنهما لا يضمنان أصلا أن يتحقق لهما حلم الإنجاب أم لا بالإضافة إلى ضرورة أن تتضمن التجيهزات «تكييف» و«ديب فريرز» وشاشتين عرض تلفزيوني وميكرويف وفرن كهربا وغسالة أطفال وغسالة أطباق وديكورات لا حصر لها و«ثلاجة» بحجم يكفي شارع بأكمله.

ويسبق ذلك الكثير من التفاصيل شديدة الإرهاق فمنها التغالي في عدد جرامات الشبكة والتي تصل عند البعض لـ 200 جرام و«بوكسات» هدايا المناسبات والأعياد وهدية الهاتف المحمول وبوكيهات الورد الإجبارية وما يسمى بالنفقة المتبادلة بين العروسين.

ولا ننسى تجهيزات الاحتفالات التي هي في ذاتها عبء آخر يتسبب الخلاف حوله في الكثير من الأحيان إلى فسخ الزواج قبل إتمامه ومنها اشتراط ذهاب العروس مع رفيقاتها إلى “ميكب أرتست” بعينه سواء في حفل الخطوبة أو الزفاف وحتمية شراء ما يسمى بمنديل العقد وصينية تقديم الشبكة وطارة حفل الخطوبة والحمولة المتضمنة لـ«عجل أو خروف» والمصاحبة للأثاث عند نقله والكحك والبسكويت والإصرار لدى البعض على أن تكون قراءة الفاتحة في قاعة والخطوبة في قاعة والزفاف في قاعة وما يصاحب ذلك من مشروبات أو وجبات الضيافة وتأجير سيارة فارهة لنقل العروسين من «الميكب أرتست» لـ«السيشن» أو لقاعة الزفاف فضلا عن حتمية تأجير فستان زفاف بمواصفات خاصة وبأسعار خيالية.

ولا يتوقف الأمر عند انتهاء حفل الزفاف وإتمام الزواج إذ عقبه تتشكل أعباء جديدة على أهل العروس فيكون ما يطلقون عليه «العشيان» وهو جمع «العشاء» والذي بموجبه يتم تخصيص يوم لكل عم أو خال أو أخ أو قريب للعروس ليحمل فيه من خيرات الله «لحوم – خضروات – بقوليات – أرز – مكرونة…» كهدية للزوجين وبعد فترة يحل موعد ما يسمى «المقابلة» وهي موعد رؤية أبو العروس لابنته والتي يتحتم خلالها على الأب أن يمنح ابنته الكثير من الهدايا العينية المكلفة.

في تقديري أن الاستجابة لهذه المتطلبات في حدها الأدنى لا يقل عن المليون جنيه هذا إن توافر مكان الإقامة «منزلا أو شقة» وهي معضلة أخرى ليست محل حديثنا الآن.

أعلم أن المسألة نسبية وأن حجم المعاناة يختلف من مكان لآخر فهو في المدينة الحضرية أيسر وأقل عنه في الريف أو في المدن الريفية لكن بشكل عام أصبحت حالة من العدوى تسري بين المناطق وإلا فما هو تفسير تلك الشكاوى العامة لأهل المدينة كما لأهل الريف؟

إنني أزعم أنني شاركت بالحضور آلاف حفلات الزفاف ومع ذلك لو أنني بذلت جهدا كبيرا لأتذكر أيهما أفضل أو أكثر بذخا لما تذكرت ومن ثم فإنني أتوجه بالخطاب للآباء والأمهات الذين ينساقون ليس خلف عادات وتقاليد وإنما خلف بدع مستحدثة وأقول لهم إن كل ذلك سُينسى ولن يبقى إلا أنكم أرهقتم أنفسكم بالاستدانة أو بيع بعض ممتلكاتكم بل ربما تكونون بسلوككم هذا قد أحدثتم شرخا في العلاقة بين الزوجين منذ بداية حياتهم يكون معكر لصفو حياتهم أو ربما تتطور تداعياته لتكون السبب الرئيسي لانفصالهما ولتتذكروا دائما أن الترف أو تلك المغالاة في تكاليف الزواج ما كانت يوما سبب لعمار بيت الزوجية أو مانعا من خرابه.

أسامة الهتيمي

كاتب صحفي، ومحلل سياسي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى