مقالات

د. وليد عبد الحي يكتب: مظاهرات غزة بين ثقافة المطلق والإعلام الغرائزي

شكلت المظاهرة التي شهدتها بيت لاهيا في شمال القطاع مؤخرا موضوعا لـ«التصيد» السياسي العربي الرسمي بهدف محدد هو زرع فكرة أن المجتمع الفلسطيني بدأ «ينفض» من حول مقاومته، وهنا نحتاج لوقفة تأمل:

1- لأن الثقافة العربية تقوم على المطلق، فهي لا تعتبر المعارضة دليل صحة بل دليل وهن وتمزق، وهنا نسال: هل هناك نبي أو فيلسوف أو حاكم أو عالم أو مطرب أو حتى لاعب رياضي حظي برضا المجتمع الكلي؟ فمن الطبيعي أن يكون في المجتمع الفلسطيني الأعلى عربيا في مستوى التعليم معارضة لأية فكرة بنسبة مئوية أو أخرى، لذا فإن المطلوب من المقاومة أن ترى في نقدها من شرائح مجتمعها أمرا طبيعيا، بل وضروريا، فالمعارضة هي أحد كوابح غلو السلطة في توجهاتها، وليت إعلام المقاومة يستضيف على شاشاته بعض رموز المعارضة لتكريس ثقافة الاحترام للرأي الآخر، لأن ليس كل من يعارضها هو تنسيق أمني يعمل على تصفيتها جسديا.

لكن الإعلام العربي الرسمي وبخاصة الجناح التطبيعي مع العدو، لم ينظر إلى المظاهرات في غزة إلا من زاوية محددة وفي غاية الضيق، وهي العمل عبر الإعلام على زيادة مأزق المقاومة ضيقا، والتدليل على صحة ما يروجه هذا الإعلام حول عدم جدوى المقاومة، فهذا الإعلام الذي روج في بدايات المواجهة بأن قيادات المقاومة «هربت إلى الخارج، وتعيش في الفنادق، وتتزوج الحسان اليافعات، وأنها قيادات عميلة لإيران» فضحته تضحيات واستشهاد نفس هذه القيادات التي واجهت الاستشهاد واحدا تلو الآخر، بل وشكل بعضها رموزا لوجدان تطهر من ثقافة مجتمعات الاستهلاك والغرائزية، وفرق كبير للغاية بين مجتمع يناقش: هل نستمر في المقاومة أم لا وما هي أشكالها الأنسب، ومجتمع مشغول بمعضلة خطيرة هي هل استضافة هيفاء وهبي حلال أم حرام؟

إن ثقافة المطلق تسود في مجتمع لا يعرف معنى المعارضة، فهل سمعتم مثلا في «مجتمعات» دول «قناة العربية أو سكاي نيوز أو الحدث أو حتى الجزيرة عن مظاهرة ولو واحدة وفيها ولو 3 أفراد؟ ففاقد الشيء لا يعطيه.

2- لو أحصينا عدد المظاهرات التي قامت في إسرائيل منذ 7 اكتوبر ضد نيتنياهو، فهي تتجاوز الـ 400 مظاهرة، وإذا كانت مظاهرة بيت لاهيا قد رددت في بعض أصواتها الفردية عبارة «برا.. برا» للمقاومة، فان المطالبة بخلع نيتنياهو ترددت على لسان الشارع الإسرائيلي وقيادات المعارضة ورؤساء وزراء وقادة جيش سابقين بل ومن بعض رجال أجهزة استخباراتهم، وهنا نتساءل: لماذا يتم النظر للمعارضة الإسرائيلية الواسعة لنيتنياهو بأنها ظاهرة «طبيعية» بينما معارضة المقاومة «دليل على أن المجتمع ينفض من حولها»؟ إن ثقافة الدونية القابعة في أعماق مجتمعنا ترى الظاهرة عند عدونا «دليل قوة» بينما نفس الظاهرة نراها «أمرا شائنا» في مجتمعاتنا.

3- اجمعت وسائل الإعلام الغربية على أن المتظاهرين كانوا بالمئات، وأنها جرت في منطقة أو مناطق محدودة، بل إنها جرت في منطقة تكاد أن تكون هي الأكثر دمارا في قطاع غزة، لكن الإعلام «المُتصيد» غيب هذه المعطيات، بل ونقل صراخ فردي لا جماعي واضح بتعبير «برا.. برا».

إن عدد سكان غزة حوالي 2.3 مليون نسمة، فلو تظاهر 500 أو خمسة آلاف أو خمسين ألف، فإن النسبة تكون بين 0.02% و2.2%، بل ودعها تصل الى 25%، فهل هذا مؤشر أن المجتمع انفض عن المقاومة؟ فالمجتمع الفلسطيني مجتمع حيوي وفيه بنية المجتمع المدني من أكثر من قرن، فمن الطبيعي أن لا تكون فيه جرعة «المطلق» بالقدر الذي تعرفه مجتمعات الإعلام الغرائزي، ناهيك عن أنه يعيش ظروف لم يألفها أي مجتمع معاصر.

4- إن الواقع الذي يعيشه الفلسطيني بخاصة في قطاع غزة واقع فيه من الموت والجراح والجوع والعطش والمرض واليأس والخوف واليُتم والرُّملة بل والضياع ما يكفي لسماع أنين «عنترة العبسي»، فالمظاهرات أمر طبيعي بل هي زفرات طبيعية ومتوقعة بل وضرورية لشرائح تعاني داخليا ويخنقها الواقع ويصب إعلام دول التطبيع عليها الزيت ليشعلها أكثر فأكثر، ومن الضروري أن تتفهم قيادات المقاومة هذه الزفرات.

إن الواقع المرير في القطاع يستوجب على المقاومة أن تعزز من انضباطها في التعامل مع مجتمعها، وعليها أن تتجاوز «نزق البعض» فلا يكلف الله نفسا الا وسعها.

5- ومن الضروري التوقف عند إعلام سلطة التنسيق الأمني، فهي لا تريد إلا تخلي المقاومة عن السلطة في غزة لتمد تنسيقها الأمني إلى هناك، والغريب أن أحد أبرز رموز هذه السلطة المروج لنقد المقاومة هو شخص يتلهف لأن يكون في موقع إدارة السياسة الفلسطينية لمواجهة قوى العالم ومراكز أبحاثها وخبرائها بينما هو «راسب في نيل شهادة الثانوية العامة لمرتين متتاليتين»، فهو ليس مهموما إلا بـ«غريزة الانتقام» وتكريس تنسيقه الأمني.

 أخيرا، أدعو المقاومة لتفهم ردات ونفثات فعل مجتمعها، وأدعوها لاعتبار ذلك أمرا طبيعيا بل وحيويا، بل وعليها أن تفتح المجال للحوار مع معارضيها، ولتكن الحوارات علنية، بل وتُجري مقابلات مع أفراد ممن شاركوا في هذه المظاهرات رغم محدوديتهم. ثم عليها أن تضع في الاعتبار أن الظاهرة قد تتسع (بسبب القسوة المتنامية في الظروف الحياتية من ناحية، والتسلل الإسرائيلي ورجال التنسيق الأمني وتحريض الإعلام الأعرابي من ناحية أخرى) مما يستوجب التفكير الهادئ أيا كان عسر الموقف الذي سيتزايد -على الارجح- في الأيام القادمة.

د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights