مقالات

د. محمد أكرم الندوي يكتب: آية تملك عليّ أعصابي

آية من كتاب الله تملك عليّ أعصابي، آية تتغلغل في أحشائي، وتمشي في أعماقي كما تمشي النار في الهشيم، ترتعش لها أوصالي، وتلين لها قساوة نفسي، كلما قرأتها، أو مرت على مسامعي، أو خطرت ببالي،

انخلع لها قلبي، واهتز كياني، كأنها نداء من السماء يرنّ في داخلي كلما هممتُ بالفرار من مقامٍ أقامني الله فيه.

“فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ”، ما أعظم وقعها! ظنَّ نبيٌّ كريم، رسولٌ مصطفي، أن قومه لن تنفعهم دعوته، وأنهم سادرون في غفلتهم، ومتمادون في استكبارهم، وأنهم لن يؤمنوا مهما نصح لهم، وقد آن الأوان أن لا يضيع وقته معهم، وأن الرحيل خير من البقاء، ففارقهم مغاضبا إياهم، وهاجرهم بحثا عن مجال أفضل للدعوة، ونسي أن الله لا يُعجزه شيء، وأن من خرج بغير إذنه، خرج وحده، في مهبّ البلاء، ولو كان من صفوة أنبيائه، وفاته أن الله قادر على أن يعرضه لختبار أخطر وامتحان أعظم.

وهذا ما حصل، وابتلي يونس عليه السلام ببلوى أشد، التقمه الحوت وهو مليم، فتكشفت له الحقيقة، وهو في ظلماتٍ ثلاث… لا بصر فيها ولا سمع، ولا قريب ولا أنيس، ولا منفذ ولا مفر، فاستكان لربه متجرّدا من كل حولٍ وقوة، ومخبتا إليه أواها منيبا، فقال كلمةً خالدة، خرجت من قاع الوجدان، “لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ”.

كلما عصف في وجهي موقف لا أرضاه، وكلما فكرت أن أهرب من عبء، أو أتخلّى عن مقامٍ ضاق به صدري، ارتفعت هذه الآية أمامي كجدار، تُذكّرني أن ما أراه ضيقًا قد يكون فيه سعة، وأن ما أهرب منه، قد أُبتلى بأشدّ منه إن خرجت بغير رضا مولاي، وأن الصبر على البلاء، خير من الفِرار الذي لم يؤذن لي به.

ثم أعود إلى نفسي، أعاتبها… ألستِ تقولين: الحذر لا يناقض الإيمان؟ بلى، الحذر حكمة، والتدبير سنّة، ولكن بين الحذر والفرار شعرة، شعرة لا يميزها إلا قلب موصول بالله، يعرف أن لكل مقام ابتلاء، ولكل موقف مسؤولية، وأن الثبات في موقعك، ما دام الله أقامك فيه، هو عين الرضا، بل هو اليقين ذاته.

ليست كل الطرق التي تؤدي للراحة طرقًا مباركة، وليس كل مَن ضاق به المقام مأذونا في الرحيل، فربّ مقعدٍ ضيق، تُفتح فيه أبواب السماء، وربّ عسرٍ مقيم، يُثمر نورًا في القلب، وربّ صبرٍ، تُبنى به منازل الخلود.

يا رب… علّمني كيف أتحمّل ما كتبتَ عليّ، وارزقني رضا البقاء حيث شئت، وألهمني رشد يونس وهو في بطن الحوت، ولا تجعلني ممن يظن بك الظنون… فأفرّ من مقام، فأُبتلى بما هو أشد، رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير.

د. محمد أكرم الندوي

عالم ومحدث، من أهل جونفور الواقعة ضمن ولاية أتر برديش الهندية. وباحث في مركز أوكسفورد للدراسات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى