الأمة الثقافية

الخطابة بين العِلم والإبداع (محمد الشرقاوي نموذجا).. بقلم الناقد: د صلاح عدس

إن الأدب العربي – منذ عصوره الأولى- فياض بالعديد من الفنون المتنوعة الخالدة سواء في الشعر أو النثر، ومن هذه الفنون فن الخطابة الذي نبغ فيه العرب نبوغا عظيما ومن أقوى الأمثلة على ذلك ما ورد عن حكيم العرب أكثم بن صيفي التميمي الذي صار مضرب الأمثال عبر التاريخ في الفصاحة والحكمة والخطابة وكان فخرا لقومه وللعرب بصفة عامة ويكفي أن قال له كسرى: لو لم يكن في العرب غيرك لكفى، كذلك ورد أن الرومان أجادوا هذا الفن كما يتضح من خلال خطبة أنطونيو بعد مقتل يوليوس قيصر، تلك الخطبة التي أوردها شكسبير في أدبه.

وقد حدد حكماء العرب عوامل نجاح فن الخطابة وحصروها في عاملين اثنين هما الاستمالة والإقناع حيث يختص العامل الأول بالعواطف بينما يختص الآخر بالعقل وبذلك يكتمل حضور المتلقين وجدانيا وعقليا فيتحقق الهدف الأعظم من هذا العمل الفني، كذلك يمكننا تصنيف الخطباء في ثلاثة أنواع على النحو التالي: النوع الأول ويشمل من يعتمدون على شدة الصوت الزاعق مع فخامة اللفظ، والنوع الثاني يضم من يرتكزون على العقل والإقناع، أما النوع الأخير فهؤلاء من يخفون جهلهم اللغوي وسطحية أفكارهم باستخدام الصوت المرتفع الذي يفوق المتوقع.

أما عن محمد الشرقاوي فهو في الأصل شاعر بلغ ذروة المجد في شعره سواء للكبار أو للصغار كما تفوّق في فن القصة القصيرة تفوقا عظيما وكذلك أبهرني بلا حدود عندما استمعت له خطيبا إذ تحققت في خطبته ركيزتا النجاح اللتان سبق ذكرهما، لقد وجدت في خطبته ما لم أجد عند غيره من سلامة اللغة وحضور الدليل المقنع والتواصل البصري والعاطفي والعقلي مع المستمعين، ومن المفارقات التي يجب ذكرها والتي توضح مدى إتقانه لفن الخطابة هو أن الشعر الوجداني يعتمد على الصوت وأن يكون منطوقا لا زاعقا ولا هامسا لذلك فإن الشرقاوي في خطبه أقرب إلى الشعر.

إن انبهاري بالشرقاوي منذ عرفته وذلك من خلال أشعاره التي تفوّق فيها وبذّ كل جيله ولذلك نصحته حينها بعدم التوجه لفنون الأدب الأخرى إذ يكفيه ذلك الإبداع الشعري الفائق والفريد ولكني تراجعت وتغيرت رؤيتي عندما قرأت قصصه القصيرة وسمعت خطبه الرائعة حيث وجدته متألقا فيهما بنفس الدرجة في نبوغه الشعري، فليس من الحكمة أن نأمر الزهور بحبس رحيقها ولا أن نجبر الطير بالكف عن الغناء كذلك ليس من المنطق أن نطالب الديمة بالكف عن الغيث ولا النبع بالتوقف عن تدفق المياه.

لقد كتبت عن الشرقاوي عدة دراسات منشورة تتناول أعماله العديدة في الشعر والقصة بل كانت كتاباتي عنه من أجمل ما كتبت عن رموز الأدب المعاصر وقد توجت تلك الدراسات بكتاب عنه بعنوان (تأملات نقدية في شعر محمد الشرقاوي) وبعد هذا الكتاب رأيت أنه من الإنصاف أن أشير إلى إبداعه وتألقه في فن الخطابة من خلال هذا المقال، ومن الملاحظ بقوة أن الهدوء الذي نجده في خطب الشرقاوي هو كالهدوء الذي يسبق العاصفة أو كالصمت الذي يسبق الزلزال وذلك لما يحدثه من انتباه ويقظة واقتناع من خلال كلماته الشاعرة التي تنساب في أوردة المتلقين لتصب في قلوبهم فتهزها هزا عميقا وتحدث العاصفة العاطفية والزلزال العقلي الذي يوقظ من السبات العميق.

وختاما أود الإشادة بمهارة الشرقاوي في فن الخطابة بعد مهارته في الشعر والقصة فقد استطاع أن يسجل اسمه بين عظماء الأدب كما أدعو لتناول موهبته وأعماله بمزيد من البحث والدراسة، والله من وراء القصد وهو الهادي الى سواء السبيل.

د. صلاح عدس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى