“الطفلُ الهارب”.. شعر: د. عبد الرحمن بن صالح العشماوي
وقفْتُ على رصيف الأُمْنِيَاتِ – –
أُفَتِّشُ عن شوارد ذكرياتي
أُفَتّشُ عن ملامح وجه طفلٍ – –
بريءٍ ، ذاتُه مُزِجَتْ بذاتي
لقد عشنا سويّاً في صبانا – –
فليس صفاتُه إلاّ صفاتي
وليس حنينُه إلاّ حنيني – – ولا لَفَتَاتُه إلاّ الْتفاتي
وليس بكاؤه إلاّ بُكائي – – وليس شكَاتُه إلاّ شَكَاتي
ونَبْضُ فؤاده هوَ نَبْضُ قَلْبي – –
وأُمْنِيَّاتُه هيَ أُمْنِيَاتي
لَعِبْنا بالتُّراب وكان عِطْراً – –
تُعَطِّرُنا به كفُّ الحياةِ
وسابَقْنا انْبِثَاقَ الفجر نغدو – –
إلى المرعى بزاد الرَّاعيات
لقد كان الصَّغيرُ رفيقَ درْبي – –
يُقاسِمُني ثباتي وانْفِلاتي
فكم سرنا إلى الوادي سَويّاً – –
سواءُ في الرَّوَاح أَم الغَدَاةِ
شربْنا الماءَ من نَبْع نَقيّ – –
تَفَجّر من صخور مُحْكَمَات
شَبِعْنا من جنَى عِنَب وتِيْن – –
ومِن أشجار لَوْز ٍمُثْمِراتِ
سَمِعْنَا كلَّ يومٍ صوتَ جَدّي – –
يُنادي بالأذان إلى الصّلاة
وأتْقَنّا السِّباحةَ في غدير – –
تَكَوَّنَ من هُطول السَّابِحاتِ
فما بالُ الصّغير يفرُّ منّي – –
فِرارَ الأتقياء من العُصَاةِ
أُفَتِّشُ عنه في الوادي فألْقى – –
نَسَائمَ روحه بينَ النَّباتِ
وأَلْقى منه عِطْراً في الرَّوابي – –
تَخَبَّأَ في الزّهور النّاضرات
أُفَتِّشُ عنه في جبَل وسَهْل – –
وأعشاش الطيور الصَّادحات
وفي البيت القديم وقد تَهاوى – –
على وَقْع السّنين الماضيات
فما ألْقى سوى أَثَر حزين – –
وَفَيض من عيون باكياتِ
تَدَفَّقَ سيلُ أسْئلَتي ،فمن لي – – بأَجْوِبة لقلبي شافياتِ
هُنا ، وقَفَ الزَّمانُ ، وقال : مَهْلاً – –
لقد رحلَ الصّغيرُ رَحيلَ آتِ
مضى وَأَتَيْتَ أَنْتَ ،فأنت طفلٌ – – ؟لأنّ الطفلَ أنتَ على الثباتِ
نعم فالطّفْلُ أصْبَحَ فيكَ شَيْخاً – –
وعندك منه أقوى البيِّنات
أغرَّكَ أنَّ شَيْبَك قد تَراءى – –
كَواكبَ في الليالي المظلمات
لقد كبِرَ الصَّغيرُ ولم يُبارِحْ – –
مَرَابِعَ حُبِّه المُتَألِّقات
فقلْبُكَ قَلْبُه حُبَّاً وشَوْقاً – – وَإحساساً بهمِّ الكائنات
وما الإنْسانُ إلاّ روحُ طِفْل – –
تَدَرَّجَ في الحياة إلى الممات
وشَرُّ النّاس مَنْ يَغْتالُ طفلاً – –
بريئاً بالخطايا المُوْبِقَاتِ
وخَيْرُ النّاس مَنْ يَبْقى كطفل – –
بَريء القلب مَيْمُونَ السِّمات
فَعِشْ بالطّفْل فيكَ كما عَهِدْنا
وجَدِّدْ روحَه بالمَكْرُماتِ