«الموتُ الجميل».. القصيدة الممنوعة للدكتور «عبده بدوي»
لم يكن موتًا حزينًا وشقيّا
إنه قد كان موتًا عبقريّا
.. ذلك الموتُ الجميلْ
كان عُـرسًا طار فيه ألفُ عصفورٍ زميلْ
كان عُـرسًا سال فيه الوردُ من جُـرحِ الجليلْ
كان عُـرسًا ناح فيه العزمُ من تحت الصليلْ
وتغطّى الحزنُ فيه بالهديلْ
وبدا الإصرارُ وجهًا يعربيّا
وشذى طفلا، وإصرارًا نبيّا
…..
رجرجَ المطّاطُ فوق البحرِ أشواقًا عتيّة
لشبابٍ شق قلب الليل – والأعداءَ – في نورِ القضيّة
أطرقوا.. ثم استداروا حول أشواقِ الصّبيّة
.. وهي تلك البنتُ – لم تمسكْ بغير البندقيّة
أسنَدَتها.. ثم هامت بين وديانٍ قَصِـيّة
وعلى الأهدابِ ذكرى لمساحاتٍ شجيّة
.. حين كانت وردةً في مزهريّة
لم تداعب خصلةَ الشعرِ العصيّة
لم تلامس في المرايا دورة الصدرِ العتيّة
والعطورِ الأنثويّة
.. حين كانت لوحةً للسبع عشرةْ
همّها قد كان جمع الشعر يعدو كالطيورِ الآسيويّة
في شريطٍ فيه ألوانٌ ثريّة
.. همّها قد كان (يافا) والوجوه العربيّة
وكلامًا قيل يومًا عن قضايا البشريّة
……..
حين كانت نجمةً في (طبريّة)
وقريبًا كان للموج عويلْ
ذكّروها بحبيبٍ ليس مجهول الهويّة
اسمه “الموتُ الجميل”
.. صوته صوتُ كمانٍ راعشٍ فوق العشيّة
وخطاه ليلكيّة
فأفاقت من رؤاها اللؤلؤيّة
ثم راحت في الهواءْ
ترسمُ “الفاءَ” إلى “النونِ” القضيّة:
– ومشى ظل ابتسامٍ في الجفونِ المخمليّة
واستراحت في الزوايا بسمةٌ فرحَى فتيّة
……….
طار منها القلبُ عصفورًا سماويًّا حزينا
فهو قد خفّ إلى (يافا) الشهيدةْ
.. إنها تحفظ أيامًا سعيدةْ
لم تزل تأتي مع الحلمِ الظليلْ
لخطاها.. للدموعِ قبل أيام الرحيلْ
.. إنها رغم المآسي لم تكن يومًا وحيدةْ
إنها كانت عنيدةْ
فبأقصى القلبِ كانت ساحة البيتِ العتيدةْ
والعصافير الوليدةْ
والفراشات الشريدةْ
ويد الأم تغطّي جسمها الطفل النحيلْ
وأبوها وهو يمشي مشيةً حيرَى وئيدةْ
– اسمه كان سعيدًا ذلك الشيخ الجليلْ –
ومشى العمرُ.. وجاءت فترة الحزن الطويلْ
.. كلما مدّت يديها في صباحٍ لجريدةْ
قَـرَأت عُرس “دلالٍ” حان في الأرضِ البعيدةْ
ورأت بالقرب منها قامة الموتِ المديدةْ
قامة الموت الجميلْ
وخيوطًا من دماءٍ تتلاقى.. وتسيلْ
وامتقاعًا، وشحوبًا، وبرودةْ
……..
لحظةٌ.. والعالمُ الممتدُ أضحى شركا
لحظةٌ.. واشتدت الدبكةُ والنايُ شكا
لحظةٌ.. قال المغني “أوف” وارتجّ البُكا
لحظةٌ قد أطلقت وردة حبٍ طيّبٍ
أخذَت صورة وجهٍ – رقَّ فوقي ملِكا –
غاب حينًا.. رقّ حينًا.. سلكا.
—————————–
قصة القصيدة
1- دلال سعيد المغربي.. فتاة فلسطينية ولدت في مخيم صبرا للاجئين الفلسطينيين القريب من مدينة بيروت عام 1958م، من أم لبنانية، وأب فلسطيني من يافا
2- لجأ الأب مع عائلته إلى لبنان في أعقاب نكبة 1948م، بعد طرده وتهجيره من دياره الأصلية،
3- تلقت دلال المغربي دراستها الابتدائية في مدرسة يعبد، والإعدادية في مدرسة حيفا التابعة لوكالة غوث اللاجئين في مخيم صبرا.
4- التحقت دلال المغربي بصفوف حركة فتح منذ الصغر وذلك في عام1976م، وأخذت الاسم الحركي لها (جهاد) وذلك في كتيبة الشهيد: أبو يوسف النجار المتواجدة في منطقة صور، في الجنوب اللبناني.
5- قامت دلال بالتدرب على جميع أنواع الأسلحة المتوفرة في ذلك الوقت من خلال دورات تدريب داخلية، وعُرفت دلال بجرأتها وشجاعتها وحسها الوطني ووعيها السياسي منذ الصغر وإخلاصها لحركة فتح.
6- في يوم 11 مارس عام 1978م، حملت أمواج البحر المتوسط إلى شواطئ مدينة حيفا الفلسطينية مجموعة فدائية استشهادية بزوارق مطاطية نوع زودياك فرنسية الصنع، وكانت دلال المغربي فوق أرضها تقود هذه المجموعة، تقاتل الأعداء في ساحل فلسطين على الطريق الرئيس بين حيفا ويافا، حيث نجحت تلك المجموعة الفدائية في الاستيلاء على باص وتم احتجاز ركابه، وانطلقت المجموعة في اتجاه تل أبيب في رحلة أنشد خلالها الفدائيون أغاني ثورية وهتفوا بشعارات سياسية،
7- تمكنت تلك المجموعة من اجتياز العديد من الحواجز الإسرائيلية التي أقيمت من قِـبل الجيش الصهيوني على الطريق الدولي بين حيفا وتل أبيب لمنع المجموعة من الوصول إلى هدفها.
8- بعد معركة بطولية استمرت عدة ساعات تكبد العدو فيها حوالي 67 قتيلاً وعدد كبير من الجرحى، استشهدت الفدائية البطلة (دلال سعيد المغربي)، وهي تقود مجموعتها التي سميت مجموعة دير ياسين في عملية القائد الشهيد/ كمال عدوان، واستشهد عشرة من أبطال تلك العملية اثنين منهم غرقوا في البحر قبل الوصول إلى الهدف، وتم أسر بطلين اثنين بعد أن أصيبا خلال الاشتباك مع قوات العدو الصهيوني.
لقد شملت ساحة المعركة البحر والبر والجو بين حيفا وتل أبيب.
هذه العملية البطولية الاستشهادية أشرف عليها الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) شخصياً من حيث التخطيط والتنفيذ.
عملية الشهيد القائد/ كمال عدوان التي قادتها دلال المغربي (جهاد) كانت مكونة من ثلاثة عشر بطلاً من أبطال الأمة العربية مجسدين بذلك الانتماء العربي الأصيل لهذه الأمة وكانوا ثلاثة أبطال من لبنان، واثنين من اليمن، وثمانية من فلسطين..
كان هدف العملية هو احتجاز بعض الرهائن المدنيين والعسكريين الإسرائيليين والتوجه بهم إلى الفندق الذي يقيم فيه مبعوث الرئيس الأمريكي، وطلب تحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال.
———————————————————-
الشاعر: د. عبده محمد محمد بدوي
الميلاد: 5 يوليو 1927 بقرية كفر الدفراوي- شبراخيت – محافظة البحيرة (مصر)
الوفاة: 27 يناير 2005م، القاهرة
– التحق بالأزهر وحصل على الشهادة الثانوية، ثم التحق بكلية دار العلوم وتخرج فيها عام 1945، وحصل على الماجستير حول (الشعر في السودان) عام 1961 والدكتوراره عن (الشعراء السود وخصائصهم الشعرية) عام 1969.
– عمل مدرسًا ثم أستاذًا جامعيًا في عين شمس وأم درمان والكويت والإمارات.
– تولى إدارة مجلتَيْ: (الرسالة) و(الثقافة) الإصدار الثاني، ورأس تحرير مجلة (الشعر).
– نشر ديوانه الأول «شعبي المنتصر» بتقديم لفتحي رضوان، ثم أعقبه بديوان «باقة نور» عام 196.
– صدر له 15 ديوانا شعريا:
شعبي المنتصر – 1958
باقة نور – 1960
الحب والموت – 1960
الأرض العالية – 1965
لا مكان للقمر – 1966
كلمات غضبى – 1966
أوبرا الأرض العالية – 1966
محمد صلى الله عليه وسلم – 1969
السيف والوردة – 1975
دقات فوق الليل – 1978
الجرح الأخير- 1986
ثم يخضرّ الشجر – 1986
الحب والموت (طبعة ثانية) 1992
دقات فوق الليل (طبعة ثانية) 1992
الجرح الأخير – 1995
هجرة شاعر – 1997
ديوان الغربة والاغتراب والشعر – 1999
حبيبتي الكويت -2000
ويجيء الختام – 2001
كُتب ودراسات:
1- موسوعة أعلام في الإسلام (صدر منها جزء واحد، وكان يتمنى أن تمتد به السنوات لينجز مشروعه الرائد، في التأريخ للصحابة الكبار)
2- الشعر في السودان.
3- الشعراء السود وخصائصهم الشعرية.
4- في الشعر والشعراء.
5- أبو تمام.
6- دراسات في النص الشعري العباسي.
7- دراسات في الشعر الحديث
8- شخصيات إفريقية.
– كان الدكتور عبده بدوي صديقًا لباكثير، وكتب عنه العديد من الدراسات والمؤلفات في حياته وبعد وفاته، منها: لقاء مع أديب – باكثير في ذكراه الخامسة – تجربة باكثير في الشعر – التجديد العروضي عند علي أحمد باكثير – باكثير شاعرًا غنايئًا – قراءة في مخطوطة لعلي أحمد باكثير – ذات السلاسل
– حصل د. عبده بدوي على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر عام 1977
وحصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1978
كما حصل على جائزة أفضل ديوان شعر من مؤسسة يماني الثقافية عن ديوانه (دقات فوق الليل) عام 1997
وجائزة البحث العلمي لأعضاء هيئة التدريس من جامعة عين شمس، والجائزة الأولى في (مهرجان داكار)، عن التأليف الإذاعي..
– أصدرت عنه جامعة الكويت كتابًا تذكاريًا سنة 2000 شارك بالكتابة فيه عدد من زملائه وأصدقائه وتلاميذه تناولوا شعره وأدبه.
– ظُلم عبده بدوي، كثيرا: شاعرًا وناقدًا وباحثًا.. وسُلبت منه ريادته في الاهتمام بالشأن الإفريقي وخدمته لها ثقافيًا وأدبيًا وإسلاميًا.. فهاجر للخليج، كما بدأ مطلع شبابه مدرسًا بالسودان، أمضى معظم سنوات حياته أستاذًا جامعيًا في الكويت وفترات قصيرة متفرقة في العراق ودولة الإمارات..
– كعادة الإسلاميين.. تعرض عبده بدوي لظلم فادح بعد الغزو العراقي للكويت، وكان أستاذًا في جامعة الكويت لمدة 13 عامًا، وعاد لمصر، بعد فقدان أمواله ومكتبته.. ولكن كلية الآداب بجامعة عين شمس رفضت التحاقه بها مرة ثانية، وهو عضو هيئة تدريس بها، ومنتدب منها لجامعة الكويت، فعمل في جامعات: الإمارات، وبغداد، والكويت (مرة ثانية) ومصر الدولية.
– عندما عاد ليستقر في وطنه، تجاهله النقاد والإعلام، كعادتهم مع كل المبدعين المحسوبين على التيارات الإسلامية، ولكنه لم يهتم بذلك وواصل إبداعه في صمت، فكانت كتبه التي ستظل تضيء وتزيّن المكتبة العربية.
– سيأتي اليوم الذي يذكر الناس فيه، د. عبده بدوي، ويتذكرون جهوده وخدماته للأدب والثقافة والفكر المرتبط بوطنه وعالمه العربي، وقارته الإفريقية، ودينه الإسلامي،
– ورغم دوره المميز والرائد، في كافة المجالات التي خاضها والفنون التي كتب فيها، إلا أنه لم يأخذ حقه من التقدير في حياته، سواء من ناحية الذيوع والصيت، أو من ناحية البحوث والدراسات، لأنه كان محسوبا على الإسلاميين والفكر الإسلامي، وتلك كارثة في المؤسسات الأدبية والعلمية العربية والمصرية، فتلك المؤسسات تفتح أبواها للشواذ، والملحدين، والبوذيين، والصهاينة، ولا تسمح للمنتسبين للفكر الإسلامي بالمرور من بوابتها، بل تفتح نيرانها عليهم، وتجنّد رجالها لمحاربتهم في كل مكان.
– في سنواته الأخيرة فاجأه الفشل الكلوي فأقعده الفراش، وتراخت همّته، لكن جذوة الإيمان ظلت مشتعلة في داخله، فعكف على كتاب الله، يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، فلما لم يعد يقدر على القراءة، ظل يتلو ما يحفظه من كتاب الله، ويستمع لتلاوة أهله، ويردد كلما دخل عليه أحد في وحدته وتحدث معه عن إهمال وتجاهل الحياة الثقافية له، يتلو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} وظل يرددها باسمًا، حتى توفاه الله منتصرًا في ليلة الجمعة المباركة.. 27 يناير 2005..
– رحم اللهُ الشاعر والكاتب والمفكّر الإسلامي، الدكتور عبده بدوي، وأثابه عما قدّمه خدمةً لدينه، ثم لغته وشعبه وأمته العربية والإسلامية.