أقلام حرة

حاتم سلامة يكتب: أي سُكر وأي غيبوبة

دائما ما أقول: إن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، تظل الضربة القاصمة لكل من زعم أنه على طريق الحق، ويأتي بالبدع والمنكرات ثم يبرر لها بما شاء من حجج واهية.

لقد سمعت كثيرا عن كلمتي السكر والغيبوبة في أعراف الصوفية، والحق أنهما كلمتان يراد بهما التعمية والتغاضي والدفاع عن ضلال بعض الصوفية الذين نطقوا بكلمات ونظريات تخالف الشرع وتجافي الدين.

وقد قال المدافعون عن ضلال بعض الصوفية: إن لهم حالتان حالة الصحو وحالة الغيبوبة والسكر، أما الأولى فينطقون فيها بكلام الشرع، لأن صاحبها وقتها مستيقظ واع لكل ما حوله وما ينطق به، وأما الثانية فلا يلام عليها المتحدث برأي أو يحاسب على كلام، لأنه وقتها يكون غائبا عن الوعي والإدراك، ثم يروون خبرا عن أبي بكر الشبلي أنه دخل على الجنيد وكانت زوجته معه، فأرادت أن تستر نفسها عن الداخل الغريب، فقال لها زوجها الجنيد: تمهلي تمهلي، فهو في حالة سكره لا يدري ولا يدرك شيئا مما أمامه، وحين مضت مدة غير يسيرة أشار لها بالاستتار حيث انتقل صاحبه من حال إلى حال.

واحتج القائل بأن الجنيد وهو من القلائل المتمسكين بحال واحدة من حبل الشريعة لم ينكر ذلك على الشبلي وأقره وعرفه في صاحبه.

بل يستشهد بعضهم بما قاله ابن خلدون مطالبا أن نتعامل مع ما جاء على ألسنة كثير منهم من الشطط الفلسفي بعيدا عن الحكم بالكفر والإيمان، فهو نقاش فلسفي وقائله صوفي ذو شطحات وذو حالين مختلفين.

ولا أعرف ما هذا الكلام العجيب، الذي يبرر البدع والمنكرات ومن الأقوال والأفعال والإلحادات، وأتساءل دائما فأقول: أكان هذا حال أكثر العارفين بالله وأقربهم إليه من الصحابة والتابعين وسلف الأمة الراشدين، أي حالات هذه، وأي سكر وأي غيبوبة؟! رجل متناقض، مرة ينطق بالشرع الحنيف، ثم لا يلبث إلا ويتبعها بما يخالف المعتقد والإيمان، ثم نقول عنه: نقبل كلامه الأول ولا نحاسبه في الثاني؟!

إن هذا منطق عجاب، وقد يحلو لكل صوفي لا يعجبه نكراننا على قومه إلا أن يتهمنا بجهل عميق في فقه الطريق، والحق أننا نحن من نتهمه بجل الإسلام قاطبة، فحالة السكر إن ثبتت على أهل الله، وصارت صفة لازمة لهم وسرًا عظيمًا أودعه الله تعالى فيهم، لما فوتها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، في أن ينوه عليها ويشير إلى وجودها، ويأمر بإعذار أصحابها، لكن كل هذا الخرف لم يصل إليه عظماء الإسلام الأول، ولم تعرفه السنة أو تقر أصحابه عليه.

إنني أجزم أن هذا كله من فعل الشياطين، وليس المقربين.

وبهذا المنطق تسقط كل الدعاوى والحجج التي أقيمت على كثير من الصوفية، ووجدت السبيل إلى تبرئتهم مما نطقوا به من زيوف وهرطقات ومخالفات، بل تمهد السبيل إلى شيوع الزيف والمنكر والشطط والشطح، بحجة أنها حال لا يحاسب عليها أهلها.

إني من خلال ما قرأت وقد تبين لي، أن هذه الأحوال تصيب المتصوف عموما سواء كان مسلما أم وثنيا والتصوف بمنهجيته الروحية موجود في كثير من الأديان والمذاهب، فهو إذن حال لا يرتبط بالدين أو يعبر عنه في كل الأحوال، لهم أحوال غريبة وأوضاع غير مألوفة، صبغها عليهم ما هم فيه من مكابدة النفس وسبحات الروح، ولكن إذا كان هذا الحال إذن، وإذا كان يجر بالمتصوف المسلم، أن يخالف الإسلام في كثير من مضامينه، فما أشر هذا الباب عليه، وما أسوأه على دينه، إذ يضر صاحبه أكثر مما ينفعه، وحتى إذا كان صاحبه في منجاة من نفسه، فإنه يضر به أتباعه والمعتقدين فيه، فلم إذن كل هذا العذاب.

إن التصوف بهذا المعنى الواضح يتحول إذن إلى حالة عداء مع الدين لا تواؤم.

ولاحظ هنا نقطة مهمة، وهي أن الذين كانوا يدافعون عن شطط بعض المتصوفة، كانوا بلجؤون دوما إلى أن أقوالهم سليمة، ولكن الناس لا يفهمون تأويلها، ثم يخرج علينا هذا الفريق ليطالبنا بالبعد عن محاسبتهم في حالة الغيبوبة، وهي سبيل إلى السعي الحثيث منهم لتجميل كل حالات الصوفية وأحوالهم وأوضاعهم ومن ثم كلماتهم، وعندي أن الرجل التقي العارف هو الذي ينأى بنفسه عن قد يجنح به للشطط ولو بمقدار ثانية من الوقت، فلزوم الأدب مع الدين ولزوم النطق الدائم بالحق، أهدى وأنفع لكل عارف تقي يتحرى الصواب ويباعد بنفسه عن مواطن الريب.

إننا نجدد البيان بأننا لسنا من أعداء التصوف، ولكننا من دعاته والمرغبين فيه، ولكن أي تصوف نريد؟ إنه التصوف الحق الملتزم بالكتاب والسنة والبعيد عن الشطط والسفه والجنون والمنكر والخروج عن الدين.

حاتم سلامة

كاتب وصحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights