حاتم سلامة يكتب: فارس على الورق
كتبت قديما أنني من محبي الرافعي، وحينما أستشهد به دومًا في كتاباتي لا ألقبه إلا بقولي: إمام العربية الأكبر، لأنه كما هو معروف أعلم الأدباء باللغة.
لكن منهجي دائمًا أنني لا أجعل لعاطفتي سلطانا على تقويمي للأشخاص والذوات، بل أنا دائمًا أسير خلف لواء الحق للحق وحده، فإن كنت أحب أديبًا أو مفكرًا ووجدته أخطأ في نظري، فلا يسعني إلا أن أعلن هذا الخطأ وأدينه فيه، رغم محبتي له وهو عندي وفي رؤيتي، لا ينافي أو يجافي هذه المحبة.
ومحبو الرافعي والمتشيعون له، لا يرون له ندا إلا العقاد رحم الله الجميع، ويتعصبون للرافعي تعصبا ينزل العقاد من عليائه ليستوي الرافعي على هرم الدنيا بلا منازع، وقد كتبت فيما سبق عن هذا السر في تعصب الإسلاميين تحديدًا للرافعي دون العقاد، مع أن نصيب العقاد في الدفاع عن الإسلام أكثر وأوفى من نصيب الرافعي.
والقوم منتشون جدًا بكتاب (على السفود) وأنه شوى أو سلق فيه العقاد على نار عاصفة، ولم يتنبهوا لما في الكتاب من تجن سافر وتطاول فج يجافي الحقيقة، بل يتجاهلون إقرار الرافعي نفسه للعقاد بأنه جبار عملاق، وأن السبب في حملته عليه تجاهله له.
لكن وبعيدا عن الصراع الأدبي وولوجًا إلى المقارنة النفسية والشخصية وما تتعلق فيه بأهداب الحرية والفروسية والبطولة والعزة والأنفة والكرامة.. هنا تحديدًا وفي هذا الميدان نجد العقاد عملاقا بمعنى الكلمة، وهو الذي لم يقف فقط عند حد الكاتب، وإنما قل ما شئت بعدها من أنه الحر النبيل الشجاع الجسور الوطني الثائر المناضل، بل الزعيم كما أطلق عليه بعضهم.
والرجل رحمه الله لم يكن من المسبحين بحمد الطغاة، واللاهثين على عتباتهم، بل كان قلمه نارًا عليهم ووبالا على نفوذهم، لا يقدس غير الحرية، ولا ينصر غير الحرية، لا يخاف في الحق لومة لائم، وليس لهؤلاء الجبارين في عرف العقاد حد أو خطوط حمراء، فالكل عنده مستباح إذا عدا عاديهم على قدس الحرية وحرمها، فلا ترى وقتها إلا عاصفة ثائرة لا تستطيع التمييز بين الجماد وبين ما فيه روح، فالكل وقتها تحت لفح النيران الحامية.
وكيف لا يكون هذا العملاق ثائرًا وزعيمًا وحرًا نبيلا، وهو الذي وقف يومًا تحت قبة البرلمان مدافعاً عن حق الوطن والشعب في حياة نيابية سليمة وحرة، وقال بمنتهى الجرأة: نحن مستعدون لسحق أكبر رأس في البلد إذا ما عبث بالدستور، فصار وطنياً فذاً قولاً وكتابة، وفعلاً، حتى إنه دفع ثمن قولته الشهيرة هذه من حياته في المعتقل لمدة تسعة شهور.
هذا هو العقاد الحر الثائر الذي لا يمكن أن يتملق بقلمه أو يداهن أو ينافق، ولا يمكن أبدًا أن يعظم غير الحرية أو ينتصر لغير الحق.
أما الرافعي فيمكن أن يكون فارسًا ولكنه نوع من الفروسية التي عرفها الناس في ميادين الزهو بالخيل والتنعم بها والسباق على ظهورها، ولم يعرفوها أبدًا في ميادين القتال والكفاح.
ربما يكون الرافعي شديدًا على أعداء الإسلام، وقوي النبرة في حجاجهم، لكنه أبدا لم يكن من هذا الصنف الذي لا يمكن له أبدًا أن ينطق ببنت شفه في وجه ظالم، أو يكسر صولة طاغية، كما كان العملاق العقاد.
لم يكن الرافعي أبدا ممن تسوقهم الشجاعة ليعلن للحاكم وقتها خطأه وجوره وعدوانه، أو يبدي رأيه بمخالفته لسياسته، كما كان العقاد عتيًا في عدائه للمتجبرين.
وهنا ربما نستدعي شاهدًا حتى لا يكون الكلام على عواهنه.
انظر هنا لقد عاش الرافعي مُسبحًا بحمد الملك فؤاد يرجو قربه ويتظلل بنعيمه، ويتودد إليه بكلمات عله ينظر إليه بنظرات العطف، وهو ما اضطره أن يمجده بأدبه يوم كان لا يستحق التمجيد، كان يفعل هذا في الوقت الذي كان العقاد ينهال على هامته بمعول الحرية، فأي الرجلين إذن أرفع وأسمى عند من أحيا وجها للمقارنة؟!
الملك فؤاد طاغية وقف في وجه الحياة الدستورية واستكثر على الأمة صاحبة الحق أن تكون مصدر السلطات، فإذا بالرافعي وفي مقدمة كتابه يكيل المدح لهذا الطاغية فيقول: ” وجلالة الملك فؤاد حرسه الله هو اليوم رجاء الإسلام، بل هذا الجسم الإسلامي كله، فهو الملك الراسخ في العلم، ثم القوي بعلمه في الإيمان، ثم المتمكن بإيمانه في الفضيلة”
ثم تعلو نبرة التملق أكثر ليقول: “بك يا مولاي رد الله على مصر ما يرد من صبح كل ليل، فكان لها الولاة كالنجوم وكنت وحدك الشمس، ووهبها الله من إقبالك معنى الغد ولم يكن فيها من الإدبار إلا معنى الأمس، فلم يلبث فجرك السعيد أن شق لها في الأمم نهارها، وشب في كل جهة من العالم أنوارها، وما الملوك إلا فصول إنسانية، تتداولها الأقدار كهذه الفصول الزمنية يداورها الليل والنهار”
ثم يقول كذلك: ” كيف أعد ما ترك يا مولاي وكلما ظننت أنني في آخرها وجدتني في أولها، وكلما أفضت في مفصلها لم يكن إلا بعض مجملها، فما من يوم عهدك السعيد إلا أنشأ للأمة يوم مجد يؤرخ ويدون، ولا يكتب عنك الكاتب إلا رأي الصحيفة من تنوع مآثرك المحبوبة كالروضة كل ما تنبته جميل ملون”
هكذا كان الرافعي يخطب ود الولاة والحكام، طمعا في القربى والمصلحة، وقد ذكر المرحوم العريان أن الدكتور محمد ابن الرافعي كان يدرس الطب في جامعة ليون الفرنسية على نفقة جلالة الملك فؤاد.
لله درك يا عقاد، فيا ترى لو كان لديك ولد يدرس ويتعلم على نفقة الملك، أكنت تتذلل هذا الذل، أو تتدنى إلى هذا الملق؟!
لا أعتقد فالفروسية طبع في النفوس الحرة، تأبى الخضوع أو الانحناء، مهما كان لها من نفع أو مصلحة.