د. أحمد ذكر الله يكتب: «فخ الركود» هل يصطاد تركيا؟
أثارت الإجراءات التقشفية الجديدة التي اتخذتها الحكومة التركية الكثير من الجدال ليس فقط حول جدوى تلك القرارات ونجاعتها في حل مشكلة التضخم والانخفاض المستمر للعملة المحلية، ولكن أيضا حول انعكاسات تلك القرارات على استمرار تنامي اقتصاد البلاد خلال الفترة القادمة.
وكان الاقتصاد التركي هو الأسرع تعافيا على المستوى الأوروبي من تداعيات فيروس كورونا حيث حقق معدل نمو 11% في العام 2021 مقارنة بحوالي 1.8% فقط في العام 2020، ثم 5.6% عام 2022، وانعكست هذه المعدلات المرتفعة على انخفاض متوالٍ لمعدلات البطالة، وكذلك زيادات كبيرة في إيرادات الصادرات والتي قفزت من 185 مليار دولار بنهاية 2020 إلى 225 مليارا في 2021 ثم 255 مليار دولار بنهاية العام الماضي.
وبالطبع، يرجع هذا النمو الاقتصادي الكبير إلى الإجراءات التوسعية التي اتخذتها الدولة التركية لمواجهة تداعيات فيروس كورونا في شكل إعانات ومنح وتخفيضات ضريبية وإعانات تصديرية، تحملتها الموازنة العامة للدولة على الرغم من معاناتها من عجز كبير، واستمرار ارتفاع معدلات التضخم في البلاد حتى تجاوزت 100% في بعض أشهر العام الماضي قبل أن تنخفض إلى ما دون 50% في الفترة الحالية.
ومن الطبيعي أن تثير الإجراءات التي اتخذتها القيادات الاقتصادية الجديدة الكثير من المخاوف حول قدرات الاقتصاد التركي على الاستمرار في النمو وخلق فرص العمل وزيادة الصادرات، وهي المكتسبات التي أضحت من أهم مميزات فترة حكم حزب العدالة والتنمية برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان خلال العشرين عاما الأخيرة.
إجراءات تقشفية مشدّدة
تحت ذريعة مواجهة ارتفاع معدل التضخم عمد البنك المركزي التركي إلى رفع سعر الفائدة لأكثر من مرة، حيث أعلن في نهاية شهر يوليو/تموز الفائت رفع الفائدة بمقدار 250 نقطة أساس، ليصل إلى 17.50%، وهذه هي المرة الثانية على التوالي التي يرفع فيها المركزي التركي الفائدة. وكان البنك أعلن الشهر الماضي رفع معدل الفائدة بمقدار 650 نقطة دفعة واحدة لترتفع إلى 15%، وهو الأمر الذي وصف بالتحول الكبير بالسياسة النقدية بعد تعيين فريق اقتصادي جديد مع بداية الولاية الجديدة للرئيس أردوغان.
لم يتوقف الأمر عند رفع الفائدة فقط، بل امتد لسلسلة من الزيادات الضريبية، حيث أقر الرئيس التركي في وقت سابق من شهر يوليو الماضي زيادة ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات إلى 20% بدلا من 18%، وكذلك الضريبة على سلع أساسية مثل المحارم الورقية والمنظفات والحفاضات إلى 10% من 8%. ويشمل هذا النوع من الضرائب السلع والخدمات التجارية والصناعية والزراعية سواء محلية الصنع أو المستوردة.
كما تمت زيادة ضريبة المعاملات المصرفية والتأمين في قروض المستهلكين من 10% إلى 15%، كما رفعت الحكومة التركية ضريبة السيارات (MTV) في العام 2023، حيث سيتم دفع ضريبة المركبات الآلية الإضافية مرة واحدة فقط لجميع المركبات، بغض النظر عما إذا كانت السيارة جديدة أو مسجلة، وتمت زيادة معدل ضريبة القيمة المضافة على الأدوية إلى 10%، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار 149 ألف نوع من الأدوية.
كذلك تمت زيادة رسوم الهواتف المحمولة القادمة من خارج البلاد من 6 آلاف ليرة إلى 20 ألف ليرة، وارتفعت ضرائب المعاملات الحكومية (كاتب العدل- جوازات السفر- السجل العقاري وغيرها) بنسبة 50%، كما أعلنت تركيا رفع ضريبة الاستهلاك الخاصة على البنزين وزيت الديزل، وكان تأثير هذه التعديلات الضريبية، إلى جانب ضريبة القيمة المضافة زيادة ما يقارب من 6 ليرات على السعر النهائي لمبيعات المنتجات البترولية بزيادة أكثر من 20% لكل لتر.
ولا شك أن كل الإجراءات التقشفية السابقة ستحجم من الاستهلاك المحلي إلى حد كبير، وهو أحد أهم العناصر الدافعة لنمو الاقتصاد التركي لا سيما في ظل استمرار ارتفاع الأسعار الباهظ لإيجارات المساكن وتراخي الإجراءات الحكومية في مواجهته، بالإضافة إلى تآكل القوة الشرائية للمواطنين بسبب تأجج معدل التضخم والذي أعلنت الإدارة الاقتصادية الجديدة أنه لن يتحسن بصورة ملحوظة إلا بحلول منتصف العام القادم.
وقد ازداد الوضع الاستهلاكي للأغلبية العظمى من الأتراك سوءا بعد الانخفاضات المتوالية والحادة لليرة والتي فقدت 100% من قيمتها في غضون عامين فقط، ولا شك أن القرارات التقشفية الجديدة ستتعاضد مع آثار انخفاض قيمة الليرة في رسم مستوى معيشي أدنى للأتراك مقارنة بسنوات سابقة، بالإضافة إلى التهامه للآثار الإيجابية لرفع الحد الأدنى للأجور والذي رفعته الحكومة عدة مرات خلال العامين الماضيين.
نقل الأعباء إلى المواطن
من المؤكد أن السياسات التركية الجديدة تنقل الأعباء المالية إلى جيوب المواطنين وربما تنجح في خفض عجز الموازنة العامة للدولة التي تعاني من ضغوط كبيرة لا سيما بعد التكاليف الباهظة للزلزال المدمر الذي بلغت تكلفته نحو 104 مليارات دولار كما أعلن الرئيس أردوغان، كما أنها من المحتمل أن تنجح في الاحتواء النسبي لمعدل التضخم ولو على المدى المتوسط، ولكنه من المؤكد أيضا أنها ستخفض من المستوى المعيشي للأغلبية الساحقة من الشعب التركي.
بالإضافة لذلك، فإن تلك السياسات ربما تدفع اقتصاد البلاد إلى ناحية الركود، ولذلك لم يكن مفاجئا إطلاقا تصريح نائب الرئيس التركي، جودت يلماز، منذ أيام ومفاده أن “على أنقرة تعزيز الإنتاج والصادرات باستمرار لمنع الاقتصاد من الانزلاق إلى الركود حتى في وقت تحارب التضخم بكافة السبل”، وهو التصريح الذي يؤكد وعي الإدارة التركية بالآثار السلبية لسياساتها الجديدة وتخوفاتها من الركود الذي هو النتاج المنطقي لها، والتي سقطت في براثنه اقتصاديات كبرى اتبعت نفس السياسات مثل الاقتصاد الألماني.
تتباهى الإدارة الاقتصادية الجديدة في تركيا بإضافة 17 مليار دولار جديدة في خزينة احتياطي النقد الأجنبي خلال شهرين فقط، وتتجاهل الآثار السلبية لإجراءاتها، والسؤال الكبير الذي يفرض نفسه حاليا: هل ستنجح تركيا في الجمع ما بين المتناقضات، سياسات تقشفية حادة من ناحية والاستمرار في تعزيز الإنتاج والصادرات من ناحية أخرى.
وعلى الرغم من الإمكانات الكبيرة للاقتصاد التركي، فإن الإجابة عن هذا السؤال صعبة للغاية، وبصفة عامة يمكن القول إن النجاة من فخ الركود تحتاج لتضافر الجهود والسياسات مع التأكيد على عدم تناسي أن هدف كل السياسات الاقتصادية والحكومات هو رفع المستوى المعيشي وجودة الحياة للمواطنين.