مقالات

د. إبراهيم التركاوي يكتب: ليس غير الله يبقى (8)

«ليس غير الله يبقى» قضية القضايا الإيمانية؛ التي تُرسّخ حكمةَ التّدبر في مآل الإنسان وتَبدُّلِ أحواله، بين فقر وغنى، ومرض وصحة، وضعف وقوة، وعسر ويسر..، فلا شيء يبقى على حاله، فالصغير يكبر، والكبير يشيب ويهرم، والهرِم يموت، بل قد يموت الصغير قبل الكبير والهرِم، فسبحان مَن وصف ذاته بقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].

إنَّ الأرض التي جعلها الله مهادًا وذلولًا لعباده؛ ليمشوا في مناكبها، ويأكلوا من رزقه، قد يظن الناس وهم يتقلبون في هذا النعيم الفائض أنهم في أمان وقرار، وبينما هم في هذا الأمان علي ظهر الأرض الذلول، يعرفون كيف تتحوَّل – بتعبير أحد المفسرين – إلى دابة غير ذلول ولا حلوب، في بعض الأحيان، عندما يأذن الله بأن تضطرب قليلًا؛ فيرتجّ كل شيء فوق ظهرها أو يتحطّم! ويمور كل ما عليها ويضطرب فلا تمسكه قوة ولا حيلة. ذلك عند الزلازل والبراكين، التي تكشف عن الوحش الجامح الكامن في الدابة الذلول، التي يمسك الله بزمامها فلا تثور إلا بقدر!

وهذا ما سجله القرآن الكريم ويراه الناس – من حين لآخر – بأُمِّ أعينهم في حياتهم، كما جاء في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ * أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:15-17].

فالأرض ومَن عليها من السائرين السادرين في طريق الغواية والبغي والضلال، ليسوا في حصن منيع أو عزيز على الله القوي القادر؛ فما بين عشية أو ضحاها، وما بين طرفة عين وانتباهتها يُغيِّر الله من حال إلي حال!

وعليه، فإنَّ على الإنسان أن يوقن أنَّ الذي أحياه من عدم هو الذي يميته، وأنَّ الذي أغناه بعد فقر قادر على أن يفقره بعد غنى، وأنَّ الذي قوَّاه بعد ضعف قادر على أن يضعفه بعد قوة..؛ فالله وحده – وليس غيره – المتصرف في كونه والقادر على أن يُبدِّل حال الإنسان من حال إلي حال.

ومن ثَمّ يظل الإنسان يقظًا في كل لحظة، لا يغيب عن الله، بل يذكره في كل حين، وعلي كل حال، في يقظته ومنامه، وفي حركته وسكونه، وفي عسره ويسره..، ويحذر ثم يحذر أن يركن إلى غناه، أو إلى قوته، أو إلى دنياه ويطمئن بها..؛ فإنَّ الله قد نعى على أقوام رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وذهلوا عن مآلهم وتَبدُّلِ أحوالهم، كما جاء في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [يونس:7-8].

لبس سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة في ولايته لباسًا شهر به، وتعطَّر وبيده مرآة، ونظر في عطفيه، فأعجبته نفسه، فقال: أنا الملك الشاب، السيد المهاب، الكريم الوهاب! فتمثّلت له جارية من بعض جواريه، وكان يتحظّاها، فقال لها: كيف ترين أمير المؤمنين؟! قالت: أراه مُنَى النفس وقُرّة العين؛ لولا ما قال الشاعر. قال: وما قال الشاعر؟! قالت: قال:

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ** غير أن لا بقاء للإنسان

ليس فيما عَلِمْتُه فيك عيبٌ ** كان في النّاس غير أنك فان!

فراع ذلك سليمان، ولم ينتفع بنفسه، قالوا: فما حال عليه بعد ذلك شهر – وفي رواية: جمعة – حتى مات!

تابع مقالات د. إبراهيم التركاوي 

د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث في الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى