د. إبراهيم التركاوي يكتب: ليس غير الله يبقى (4)

ليس غير الله يبقى، وما عنده يبقى ويدوم، وما عند الناس يفنى ويزول، {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].

تلك هي الحقيقة الباقية التي تُرسِّخ القيم، وتَصون الإنسان من الإخلاد إلى الأرض، ومن غلواء المادية الطاغية.

ولذا رسَمَ الله للإنسان المؤمن منهجًا للحياة الفاضلة الكريمة، في أفق رسول الله ﷺ، تلك الحياة التي يعتز فيها صاحبها بالمعاني الشريفة الباقية،

ولا تستهويه المظاهر والزخارف الزائلة، كما جاء في قوله تعالى:

{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}

[طه:131].

والآية السابقة لا تدعو إلى الزهد في طيبات الحياة، بل هي – كما عبَّر أحد المفسرين- دعوة إلى الاعتزاز بالقِيم الأصيلة الباقية،

وبالصلة بالله والرضى به. فلا تتهاوى النفوس أمام زينة الثراء، ولا تفقد اعتزازها بالقِيم العليا،

وتبقى دائمًا تحس حرية الاستعلاء علي الزخارف الباطلة التي تبهر الأنظار..

هذا المنهج السامي ربَّى عليه رسولُ الله ﷺ صحابتَه الكرام من خلال الأنصار، عندما تقاول شباب منهم فيما فرضه رسول الله ﷺ من النصيب الأكبر من الغنائم لأشراف قريش ومؤلَّفة القلوب،

ولم يكن للأنصار إلا نصيب ضئيل. فانعطف عليهم رسول الله ﷺ بكلمةٍ حانية فيها حكمة هذا التفاوت في الفرض والعطاء،

فقال: «أوجدتم عليَّ يا معشر الأنصار في أنفسكم، من أجل لَعاعة من الدنيا تألّفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟».

رضينا بالله ورسوله قسمًا وحظًا

ثم قال: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله إلي رحالكم؟ فو الله لَمَا تنقلبون به خير مما ينقلبون به..».

فلم يتمالك الأنصار أمام هذه الكلمة الحكيمة الحانية، فانفجر الإيمان والحنان في نفوسهم، وبكوا حتى أخضلوا لحاهم،

وقالوا: رضينا بالله ورسوله قسمًا وحظًا.

[أصل الرواية في الصحيحين].

إنَّ أنصار القِيم والمبادئ اليوم لهم في أنصار الأمس الأسوة الحسنة، فالدنيا بأسرها – في جنب قِيم الإيمان – أنزل قدرًا من أن يأسوا عليها..!!

إنها التربية السامية التي تحرِّر الإنسان المؤمن من أثقال الأرض، ومن إسار المطالب الفانية، وتجعله يمشي على الثرى وهمته في الثريا، يوجِّه الحياة -بقِيم السماء- ولا ينجرف مع تيارها، ولا يرضى إلا بأسمى المطالب العالية..

عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنتُ أَبِيتُ مع رسول اللهِ ﷺ، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال: «سلني».

فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة؟ فقال: «أو غير ذلك؟» قلت: هو ذاك. قَالَ: «فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود».

[رواه مسلم].

إن الصحابي الجليل -رضي الله عنه- كان أعمق فكرًا، وأبعد نظرًا، وأعلى همةً، فما سأل النبي ﷺ -وهو أكرم الخلق على الإطلاق،

وهو مَن يعطِي عطاء مَن لا يخشى الفقر- شيئًا من متاع الدنيا، إنما سأله مرافقته في الجنة! فما المال والبنون،

بل ما الدنيا بأسرها في جنب مرافقة النبي ﷺ في الجنّة؟!!

ولمَّا كانت المطالب السامية، والقمم السامقة، لا يبلغها إلا المشمِّرون من أصحاب الهمم العالية، دلَّه النبي ﷺ على معارج الوصول إليها بقوله:

«فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود». ومَن يسجد لله لا يسجد لغيره، ولا يخضع لأحد سواه، ولا يطمع إلا في رضاه..!!

إنه منهج التسامي -في عمارة الأرض وبناء الحياة- بقِيم السماء، في مواجهة قِيم الأرض وغلواء المادية الطاغية، {كَلاَّ لا تطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}

[العلق: 19]!!

د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث في الفكر الإسلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights