د. حسن سلمان يكتب: غايات قرآنية.. مكونات القرآن وموضوعاته
الإسلام الدين الجامع:
إن الدين المنزل من الله تعالى للناس كافة هو الإسلام القائم على التوحيد باعتباره الأصل الجامع للرسل مع وجود الاختلاف والتفاوت في الشرعة والمنهاج قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِۦۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤۖ أَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِیهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِینَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَیۡهِۚ ٱللَّهُ یَجۡتَبِیۤ إِلَیۡهِ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَن یُنِیبُ) الشورى/13
(وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَمُهَیۡمِنًا عَلَیۡهِۖ فَٱحۡكُم بَیۡنَهُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَاۤءَهُمۡ عَمَّا جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ لِكُلࣲّ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةࣰ وَمِنۡهَاجࣰاۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ وَلَـٰكِن لِّیَبۡلُوَكُمۡ فِی مَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۖ فَٱسۡتَبِقُوا۟ ٱلۡخَیۡرَ ٰتِۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِیعࣰا فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ) المائدة/48
وهناك مصطلحات ذات صلة بالدين منها الشريعة، المذهب، الملة، يقول الشريف الجرجاني في كتابه التعريفات:(الشريعة من حيث إنها تطاع تسمى دينا ومن حيث إنها تجمع تسمى ملة ومن حيث إنها يرجع إليها تسمى مذهباً)
وقيل الفرق بين الدين والملة والمذهب:
إن الدين منسوب إلى الله تعالى
والملة منسوبة الى الرسول عليه الصلاة والسلام
والمذهب منسوب الى المجتهد في إطار الملة
وبالتالي فالدين عند الله الإسلام والرسل بشرائعهم المختلفة هم ملل ملة نوح وملة إبراهيم وملة موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام وهكذا والاختلاف في النظر الاجتهادي داخل الملة هو المذهب المنسوب لكل عالم ففي الإسلام مثلا اشتهرت المذاهب الأربعة فهي داخل الملة الواحدة وهي الملة المحمدية. (راجع البحث عن دين الفطرة/6 د. محمد المختار الشنقيطي)
مكونات الظاهرة الدينية:
تذهب الكثير من الدراسات المعاصرة حول الأديان وتعريفها ومكوناتها إلى أن الظاهرة الدينية لكي تسمى دينا لا بد أن تشتمل على ثلاثة مكونات هي:
(العقيدة – العبادة – السردية أو القصة الكونية) وهذه بطبيعة الحال إذا صدقت في بعض الأديان إلا أنها لا تصدق على جميعها بل لا تكاد تصدق على أي دين منزل من الله تعالى وخاصة الإسلام الذي بعث الله تعالى به محمدا عليه الصلاة والسلام فهو أوسع وأشمل من هذه المحدودية التي لا تغطي النشاط الإنساني بكل صوره ومعالمه باعتباره الرسالة الخاتمة للبشرية ويتسم بالعموم والشمول والخلود حتى قيام الساعة ولهذا يمكننا تناول مكونات الظاهرة الدينية الإسلامية بما هو أوسع من ذلك بحكم طبيعته وموضوعات كتابه المنزل ولعل ذلك يشمل كافة الرسالات المنزلة من الله تعالى على تفاوت بينها كما ونوعا وذلك على النحو الآتي:
1/ العقيدة وقضايا الإيمان:
وهي الأحكام الجازمة التي ينعقد عليها القلب ولا تقبل الشك لدى صاحبها سواء كانت حقا في ذاتها أم باطلا فهي إذن:(مجموعة الأفكار المتعلقة بالمقدسات وهي عبارة عن أشكال التعبير الجماعي عن الإيمان الذي هو حالة فردية في الأساس وحين ينتقل للحالة الجماعية يتم التمييز عن بقية الكيانات البشرية) وكل دين يشتمل على مجموعة من القضايا الإيمانية الغيبية والإسلام يقوم بنيانه في المجال الغيبي على الإيمان بالله والملائكة واليوم الآخر بما فيه من جنة ونار وبقية قضايا الإيمان التي تقوم على اليقين الوجداني والعقلي بحقيقة الرسالة الإلهية التي تفرض ذاتها من جهة إعجازها وقيام البينات البرهانية عليها .
والإسلام باعتباره رسالة الله تعالى للناس كافة أساسه الإيماني واحد وهو التسليم المطلق لله جل جلاله والاستجابة لرسالته وهو مضمون كلمة (لا إله إلا الله) التي تشكل الوحدة بين جميع الرسل والمؤمنين قال تعالى:(فَإِنۡ ءَامَنُوا۟ بِمِثۡلِ مَاۤ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَوا۟ۖ وَّإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّمَا هُمۡ فِی شِقَاقࣲۖ فَسَیَكۡفِیكَهُمُ ٱللَّهُۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ) البقرة/١٣٧ وهذا السبيل هو سبيل المؤمنين ومن خرج عنه فهو كافر مخلد في النار لقوله تعالى: (وَمَن یُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا)النساء/115
2/ السردية الكونية:
وهي قصة الوجود الكوني بأبعاده المختلفة (الله – الإنسان – الطبيعة) وطرح رؤية شاملة تقدم تفسيرا يجعل للحياة معنى وللوجود غاية ومغزى ويجيب عن التساؤلات الوجودية التي تقلق الإنسان معرفيا وعلميا في عالمي الغيب والشهادة وهي قصة ذات إيحاء ودلالة أزلية لارتباطها بالحق والخلق والعلاقة بينهما ولأن الدين في حقيقته هدايات عن معنى الحياة ومغزاها والسردية الدينية تخرج الإنسان من دوائر التيه والعبثية والعدمية والضياع إلى آفاق الحكمة والغائية والرشد قال تعالى: (أَفَحَسِبۡتُمۡ أَنَّمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ عَبَثٗا وَأَنَّكُمۡ إِلَيۡنَا لَا تُرۡجَعُونَ )المؤمنون/115 وهذه العلوم والمعارف المتضمنة لهذه السردية الكونية هي من علوم النبوات وما فيها من الغيب السابق واللاحق في الوجود كله.
3/الشرعة – الشريعة:
الشرعة تعني البيان والوضوح كما تعني الشروع في الشيء والدخول فيه وهي الأشياء التي أوجبها الله تعالى على المكلفين والشريعة هي الأحكام التي تنظم علاقات الناس بينهم وبين الله تعالى فيما يتعلق بالعبادات وهي مجموعة الشعائر التي يلتزم بها أهل دين معين وهي نتاج الإيمان وتغذيته وتقوم علاقة جدلية بين الإيمان والعبادة فكلما زاد الإيمان زادت العبادة وكلما زادت العبادة زاد الإيمان لأن حقيقة الإيمان هي اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح والإيمان بهذا الاعتبار يزيد وينقص كما هو مقرر في كتب العقائد.
وأصول الشعائر عند المسلمين هي الصلاة والصيام والزكاة والحج ويرتقي الإنسان في مدارج التعبد من (علم اليقين إلى عين اليقين إلى حق اليقين) وحالة الشهود الإيماني وتحقيق مرتبة الإحسان الواردة في حديث جبريل (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) أخرجه البخاري في الصحيح كما أن الشريعة أو الأحكام التشريعية تشمل تلك الأحكام التي تتعلق بالمعاملات المنظمة للسلوك الإنساني أي علاقة الإنسان بالإنسان أو المجتمع أوالسلطة والدولة وغيرها من مجالات الحياة وما هو حكم الله فيها وتعتبر الشريعة (عبادات ومعاملات) من الموضوعات الأساسية في كل رسالة وملة كما تقدم في قوله تعالى ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) قال العلامة الطبري في تفسيره لهذه الآية ( لكل قوم منكم جعلنا شرعة ،والشرعة هي الشريعة بعينها ) ويمكننا الإشارة لقضايا الشريعة في مجال المعاملات فيما يلي:
أ/ أحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات والمساكن وكل ما يتعلق بحفظ الوجود البشري من حيث الوجود والبقاء.
ب/ أحكام الأسرة أو ما يطلق عليه حاليا (الأحوال الشخصية) من أحكام المحارم والزواج والطلاق والنفقات المالية والعشرة بين الزوجين وحقوق الآباء والأبناء والقرابة والمواريث وكل ما يتعلق برعاية الإنسان في نطاق دائرته الاجتماعية الخاصة من حيث الاستمرار والتكاثر والتناسل.
ج/ أحكام المعاملات المالية من بيع وشراء ومعاوضات ومداينات ومشاركات وهبات وتبرعات وغيرها من المعاملات المالية المعاصرة في المصارف والبورصات والتسويق الشبكي والتأمينات وقضايا الربا والبيوع المحرمة وعامة ما يتعلق بالاقتصاد والتجارة والزراعة والثروات والموارد وغيرها.
د/ أحكام المعاملات السياسية وفقه الدولة والعلاقات الدولية وكل ما يتعلق بالولايات العامة ويمكن أن يندرج فيها أحكام القضاء والتقاضي وتفاصيل ذلك من صلاحيات وشروط وضوابط وآداب وإجراءات وغيرها.
هـ/ أحكام الحدود والتعزيرات والجنايات والعقوبات وهي الحارسة للدين والدنيا من الهدم والضياع والعدم والفساد والتهارج.
4/المنهاج والسبيل:
المنهاج في اللغة هو السبيل والطريق الواضحة وقد أشارت آية سورة المائدة السابقة للشرعة والمنهاج وقد اختلفت أقوال المفسرين في الدلالة المرادة بهاتين المفردتين هل هما من قبيل الترادف أم لا؟ وهل هناك ألفاظ في القرآن تحمل معاني ذات دلالة قريبة من مفردة المنهاج وما هي تلك المفردات؟ وما هي العلاقة التي تربط الشرعة بالمنهاج؟ والاختلاف بين الرسالات في ذلك وذكرنا بأن المراد بالشرعة هو الشريعة وأحكامها تفصيلا في مجال العبادات والمعاملات لكل رسالة من الرسالات بما يناسب حالها في الزمان والمكان وأحوال الإنسان وهي مختلفة ويتعريها النسخ فما هو المنهاج؟
لعله من المناسب نقل كلام الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) عن السياق الذي وردت فيه آيات سورة المائدة وما المقصود بها ودلالة مفردة الشرعة والمنهاج وذلك في قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ -حيث يقول الرازي- وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: لَفْظُ (الشِّرْعَةِ): في اشْتِقاقِهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: مَعْنى شَرَعَ: بَيَّنَ وأوْضَحَ.
قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: لَفْظُ الشَّرْعِ مَصْدَرُ: شَرَعْتُ الإهابَ، إذا شَقَقْتَهُ وسَلَخْتَهُ.
الثّانِي: شَرَعَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّرُوعِ في الشَّيْءِ وهو الدُّخُولُ فِيهِ، والشَّرِيعَةُ في كَلامِ العَرَبِ المُشْرَعَةُ الَّتِي يَشْرَعُها النّاسُ فَيَشْرَبُونَ مِنها، فالشَّرِيعَةُ فَعِيلَةٌ بِمَعْنى: المَفْعُولَةِ، وهي الأشْياءُ الَّتِي أوْجَبَ اللَّهُ تَعالى عَلى المُكَلَّفِينَ أنْ يَشْرَعُوا فِيها، وأمّا المِنهاجُ فَهو الطَّرِيقُ الواضِحُ، يُقالُ: نَهَجْتُ لَكَ الطَّرِيقَ وأنْهَجْتُ لُغَتانِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ:
احْتَجَّ أكْثَرُ العُلَماءِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا لا يَلْزَمُنا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ كُلُّ رَسُولٍ مُسْتَقِلًّا بِشَرِيعَةٍ خاصَّةٍ، وذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَ أُمَّةِ أحَدِ الرُّسُلِ مُكَلَّفَةً بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الآخَرِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ:
ورَدَتْ آياتٌ دالَّةٌ عَلى عَدَمِ التَّبايُنِ في طَرِيقَةِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ، وآياتٌ دالَّةٌ عَلى حُصُولِ التَّبايُنِ فِيها.
أمّا النَّوْعُ الأوَّلُ: فَقَوْلُهُ: ﴿شَرَعَ لَكم مِنَ الدِّينِ ما وصّى بِهِ نُوحًا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿أنْ أقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ [الشُّورى: ١٣]، وقالَ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنْعامِ: ٩٠] .
وأمّا النَّوْعُ الثّانِي: فَهو هَذِهِ الآيَةُ، وطَرِيقُ الجَمْعِ أنْ نَقُولَ: النَّوْعُ الأوَّلُ مِنَ الآياتِ مَصْرُوفٌ إلى ما يَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ الدِّينِ، والنَّوْعُ الثّانِي مَصْرُوفٌ إلى ما يَتَعَلَّقُ بِفُرُوعِ الدِّينِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ:
الخِطابُ في قَوْلِهِ: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ِالمائدة:48 خِطابٌ لِلْأُمَمِ الثَّلاثِ: أُمَّةِ مُوسى، وأُمَّةِ عِيسى، وأُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، بِدَلِيلِ أنَّ ذِكْرَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ قَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ﴾ المائدة :44، ثُمَّ قالَ: ﴿وقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [المائدة:46]، ثُمَّ قالَ: ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ﴾.
ثُمَّ قالَ: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾ المائدة:48 يَعْنِي شَرائِعَ مُخْتَلِفَةً: لِلتَّوْراةِ شَرِيعَةٌ، ولِلْإنْجِيلِ شَرِيعَةٌ، ولِلْقُرْآنِ شَرِيعَةٌ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ بَعْضُهم: الشِّرْعَةُ والمِنهاجُ عِبارَتانِ عَنْ مَعْنًى واحِدٍ، والتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ والمُرادُ بِهِما الدِّينُ، وقالَ آخَرُونَ: بَيْنَهُما فَرْقٌ، فالشِّرْعَةُ عِبارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الشَّرِيعَةِ، والطَّرِيقَةُ عِبارَةٌ عَنْ مَكارِمِ الشَّرِيعَةِ، وهي المُرادُ بِالمِنهاجِ، فالشَّرِيعَةُ أوَّلٌ، والطَّرِيقَةُ آخِرٌ، وقالَ المُبَرِّدُ: الشَّرِيعَةُ ابْتِداءُ الطَّرِيقَةِ، والطَّرِيقَةُ المِنهاجُ المُسْتَمِرُّ، وهَذا تَقْرِيرُ ما قُلْناهُ، واللَّهُ أعْلَمُ بِأسْرارِ كَلامِهِ).
وهذا النقل رغم طوله ولكنه مهم لفهم المراد بالشرعة والمنهاج في بحثنا وقد تقدم معنى الشرعة أو الشريعة وأنها الأحكام التفصيلية لكل رسالة وأن المنهاج هو مكارم هذه الشريعة وهو قسم الأخلاق التي بعث النبي ليتممها كما في قوله عليه الصلاة والسلام (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وفي رواية صالح الأخلاق) ذكره مالك في الموطأ بلاغا /وصحيح الجامع.
ومكارم الأخلاق وصالحها وردت في القرآن الكريم وهي الوصايا أو المحرمات التي تتأسس على التوحيد وعدم الإشراك بالله تعالى ثم بر الوالدين وتحريم قتل النفوس والأولاد وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن وتحريم أكل أموال اليتامى ووجوب الوفاء في المكاييل والموازيين ( القسطاس المستقيم ) والقول بالعدل في الشهادات وتحريم شهادة الزور وهذه مجتمعة تشكل الصراط المستقيم كما ختمت به الآيات سورة الأنعام ( وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ ٰطِی مُسۡتَقِیمࣰا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِیلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) الأنعام/153وهو ذات الصراط الوارد في سورة الفاتحة (ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ ) الفاتحة:6 وأن الخروج عن الصراط فيه اتباع للسبل الضالة والمناهج المنحرفة عن الجادة وعن سبيل المؤمنين كما يسمى الصراط كذلك بالحكمة في العديد من الآيات ومنها آيات سورة الإسراء من قوله تعالى:(وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِیَّاهُ وَبِٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنًاۚ) إلى قوله تعالى:
(ذَٰلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰٓ إِلَيْك) الإسراء: 23/39 وهي ذات القضايا التي سبقت في سورة الأنعام كما تقدم وهي كليات راعتها الشريعة في سيرورتها التاريخية وهي تراكمية بدأت مع نوح وتمت عند النبي عليه وعليهم الصلاة والسلام أجمعين وغالبا هذه لا تخضع للنسخ باعتبارها كليات ثابتة تعبر عن أصول الرسالات في الجانب العملي الذي يأتي فيه التفصيل في الشريعة وأحكامها وربما كانت هناك مفردة قرآنية أخرى تحمل ذات الدلالة وهي مفردة الفرقان لأنها تأتي في العديد من السياقات محل مفردة الحكمة والصراط المستقيم كما في الحديث عن موسى عليه السلام في قوله تعالى: (وَإِذۡ ءَاتَیۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ) البقرة/ ٥٣ وقوله تعالى: (وَءَاتَیۡنَـٰهُمَا ٱلۡكِتَـٰبَ ٱلۡمُسۡتَبِینَ * وَهَدَیۡنَـٰهُمَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیم) الصافات117/118 وعليه فالمنهاج هو الصراط المستقيم وهو الحكمة وهو الفرقان وهو عبارة عن منظومة القيم الأخلاقية والتي تشكل القواسم المشتركة في أصول الرسالات ولكن مع نوع من التفاوت بطبيعة الحال حيث بلغت تمامها في الرسالة الخاتمة وغالبا ما ترعى هذه القيم الدين والنفس والعقل والنسل والمال والعرض من حيث أصل وجودها ومنع عدمها وتلاشيها ويكون ذلك من خلال الأحكام الناشئة عن تلك الكليات والتشريعات الجزئية المتفرعة عنها ويترتب على ذلك أمورا مهمة ننقل فيها كلام الشيخ عبدالله بن بيّه بطوله في كتابه ( تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع ) وذلك لأهميته في مسألتنا الحالية لبيان العلاقة بين القيم والأحكام أي بين المنهاج والشريعة وذلك فيما يلي :
أولا: إن الأحكام تعتبر ثمرة قيم وفضائل: هذه القيم لا تحتاج إلى تحقيق مناط أما الأحكام الناشئة عنها فتحتاج إلى تحقيق المناط لأنها محفوفة بخطاب الوضع.
إن الشريعة قبل أن تتحول إلى إجراءات قانونية يطبقها السلطان وما يتفرع عنها ولايته، فإنها تغرس شجرة القيم التي تثمر الحكم على الأشياء وعلى الأعمال والتصرفات بالحسن والقبح وأنها حق أو باطل أو أنها صحيحة أو باطلة مقبولة أو مردودة لتنشئ النظم والأحكام الجزئية التي تحميها وتحوطها ترتب أسبابها وموانعها وشروطها وبعبارة أخرى تهيؤ مجال تطبيق الأحكام الجزئية.
فالفرق قائم بين القيم وما تثمره من قيام الفضائل في نفوس المؤمنين والحرص على تمثلها في حياتهم الفردية والجماعية وبين الأحكام التنظيمية التي تتعامل مع الانحراف عنها سواء تعلق الأمر بالتشريع المندي أو الجزائي ترعاها وبناءً عليه فإن القيم والفضائل ثابتة لا تحتاج إلى بيئة تطبيق ولا تفتقر إلى تبيئة لأن خطاب الوضع لا يتعلق بها إلا عندما تكون أحكاما تفصيلية سواء كانت سلطانية مثل نظم الولايات والتشريعات الزجرية أو غير سلطانية مثل عقود المعاملات والأنكحة سوى ما علّق منها بالسلطان)
ثانيا: وإذا كانت العلاقة بين المنهاج والشرعة هي العلاقة بين الكليات والجزئيات أو العام والخاص فما هي الفروق الأساسية بين الأمرين؟
يجيب الشيخ عبد الله بن بيّه قائلا :(الفرق بين قيم التحريم والتحليل والأحكام التطبيقية من وجوه أربعة:
1/ أن القيم ثابتة من كل وجه من حيث القطعية أما الأحكام فبعضها قطعي وبعضها اجتهادي.
2/ أن القيم من باب الكلي وليست من باب الجزئي.
3/ أن الخروج عليها (أي القيم) هو الخروج على النظام العام للأمة وإنكارها خروج من الدائرة (أي دائرة الإسلام).
4/ أنها(القيم) عزائم لا تعتريها الرخص وعمومات لا تعروها مخصصات خطاب الوضع وحدوده التي تحوط (تحيط) الخطاب الجزئي فاحتاج الخطاب الجزئي إلى تحقيق مناط لتنزيله على مجالات معينة مشخصة طبقا لاختلاف المحال وتقلبات الأحوال )ص 117/121.
وبذلك قد اتضحت طبيعة العلاقة بين الشريعة والمنهاج ومعالم الفروق بينهما وأن التأسيس أولى من التأكيد في آية المائدة أي المغايرة في المعنى أولى من القول بأنهما مترادفتان ومعناهما واحد، كما تبين بأن المنظور القيمي والأخلاقي في الرسالات يتسم بالثبات والتطور والتراكم لأنه يتعلق بالأصول والكليات وهو مصاحب للإيمان الجامع بين الرسالات وأصل الأصول فيها، بينما الجانب التشريعي يتسم بالمرونة والتغير ويراعي الأحوال الإنسانية وما يطرأ عليها وقابل للنسخ بين شريعة وأخرى.
ومن خلال الموضوعات السابقة فقد نشأت المدارس العلمية والفقهية والسلوكية تأصيلا وتدوينا وتفريعا على النحو الآتي:
1/ علوم القرآن والسنة والتي تعنى بأصل النص أو الوحي المنزل وهو مرجعية الدين والرسالة في كل أحكامها والمقصود من ذلك إثبات النص كما نزل من الله تعالى وكما بلغه ونطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهناك فروع تفصيلية في ذلك.
2/ علوم العقيدة وقضايا الإيمان وأصول الدين وما يعرف لدى البعض بعلم الكلام.
3/ علم الفقه وأصوله وهو العلم المتعلق بالشعائر والمعاش أي العبادات والمعاملات ومنهجيات النظر والاجتهاد في النوازل والأحكام.
4/ علم مكارم الأخلاق والزهد والرقائق والسلوك وكافة المنظومات القيمية وهو علم المنهاج كما تقدم.
هذه بعض المعالم حول مكونات وموضوعات القرآن الكريم ويمكن التفريع والتوسع فيها أو اختصارها ودمج بعضها في بعض فمثلا هناك موضوعات القصص والأمثال وما ينتج عنها من السنن الإلهية في الأمم والمجتمعات وكذلك مسيرة الدعوة في سيرها نحو التمكين وما يتخللها من أحكام وقضايا الثواب والعقاب وكل ذلك يمكن إدراجه فيما تقدم. وحتى نستكمل هذا الموضوع فإننا بحاجة للحديث عن التطور التشريعي والتراكم القيمي والأخلاقي من خلال السياق القرآني وتتبع قصص الرسل والأنبياء والنظر في مواكبة الرسالات لحركة التطور الإنساني وسيكون ذلك في حلقة قادمة متممة إن شاء الله.