بحوث ودراسات

د. حلمي الفقي يكتب: تطوير التعليم يحتاج إلى تطوير

التعليم هو الركن الأول لبناء الإنسان، وتشييد العمران، وهو الأساس الأهم لنهضة الأمم، وارتقاء الدول، والصعود إلى القمم، وقد اتفقت على ذلك الإنسانية كلها في المشارق والمغارب، في الماضي والحاضر.

وقد رفع الإسلام العلم إلى القمة السامقة، وجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم، وحسبك تنويها بشأن العلم أن الكلمة الأولى في القرآن الكريم كانت أمرا بالقراءة والتعلم والتفهم لكل ما يجرى حولنا، وأبصرته عيوننا، أو سمعت به آذاننا في كل مجالات الحياة.

المعلم حجر الزاوية في العملية التعليمية

المعلم هو صاحب الدور الأهم والأخطر في العملية التعليمية، وذلك لأنه يبعث الهمم، ويفجر العزائم، ويجدد الفهم، ويكشف الخفي، ويسهل الصعب، ولهذا كان المعلم صاحب رسالة مقدسة، وأمانة عظيمة، وقد أعلى الإسلام منزلة المعلم إلى الدرجة الفضلي، والقمة العليا، قال تعالي:  ﴿شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]

وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

{العلماء ‌ورثة ‌الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر}

رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم.

تأهيل المعلم:

في العام 2006م صدر في مصر القرار الجمهوري بإنشاء الهيئة القومية لضمان جودة التعليم،

وأصبحت الهيئة منوطا بها مهمة تطوير التعليم في مصر، بعد أن جاء قرار إنشائها متأخرا قرابة نصف قرن عن غيرنا من دول العالم.

موقف الإسلام من التطوير:

الإسلام يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها، ويدفع أبناءه إلى القمم، ويبعث فيهم الهمم، ويوقظ فيهم العزائم،

التي تعمل ليل نهار للتجديد والتطوير والابتكار في كل ما يعود على الإنسانية بالخير والنفع،

قال جل جلاله: ﴿وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذرِّيَّٰتِنَا قرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: 74]

فرغم أن المتقين هم خير البرية، وأحسن الإنسانية، لكن الإسلام لا يكتفي من بنيه أن يكونوا من المتقين،

بل عليهم أن يبذلوا الجهد، ويواصلوا السعي ليكونوا أئمة المتقين، طالما أن لديهم الإمكانات التي تؤهلهم لهذا.

عن شداد بن أوس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «‌إن ‌الله ‌كتب ‌الإحسان ‌على ‌كل ‌شيء،

فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» رواه مسلم وأبوداود والترمذي واحمد، وغيرهم.

فالإحسان، والاتقان، وأداء المهام على أحسن وجه فريضة في دين الإسلام، وذلك في كل مجالات الحياة،

والتي من أهمها بالطبع ميدان التعليم، وقد أمر القرآن الكريم المسلمين باستعمال أحسن الأساليب، واتباع أجمل الطرق في دعوة الناس أجمعين إلى منهاج رب العالمين،

قال جل جلاله: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ﴾ [النحل: 125]

وقال تبارك وتعالي: ﴿وَلَا تجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ﴾ [العنكبوت: 46]

وكانت سيرة محمد صلى الله عليه وسلم معلما مضيئا، وقدوة بالغة في التفنن والتجديد والابتكار في دعوة الناس إلى الصراط المستقيم.

وقفة مع مراكز تطوير التعليم في العالم العربي:

اطلعت على الكثير من إصدارات مراكز تطوير التعليم في العالم العربي، والكثير من الدورات التي تمنحها هذه المراكز،

والمؤسف حقا أن مناهج هذه المراكز مترجمة من مراكز أجنبية في دول غير مسلمة،

وقد ترجمت بغثها وسمينها، بكامل حروفها، وجميع حذافيرها.

ولسنا ننكر الترجمة عن القوم، ولا ندين الاستفادة بأحسن ما لدى الآخرين، فهذا مطلب شرعي، أوجبه دين الإسلام،

ودعا بنيه إلى الأخذ بأحسن ما توصلت إليه الحضارة الإنسانية في كل مجالات الحياة.

وما ننكره هنا أن إدارات التطوير في العالم العربي تترجم دون تهذيب، وتنقل دون تمحيص ولا غربلة للمادة المترجمة،

ودون أدنى إشارة إلى السبق الإسلامي في كثر من المسائل والنقاط، ولم أجد فيما اطلعت عليه، كتابا من كتب الجودة،

أو تقريرا من تقاريرها، بدأ بالبسملة، أو بحمد الله، أو الثناء عليه، ولا تجد في ثنايا الكتب آية قرآنية،

ولا حديث نبويا، أو تذكيرا ولو عابراً بأثر من آثار سلفنا المبدعين.

مركز ضمان الجودة والتدريب بجامعة الأزهر:

والأخطر من ذلك كله أن مركز ضمان الجودة والتدريب بجامعة الأزهر سار على الدرب، واقتفي الأثر، بلا روية، ولا تفكير،

ولا إعمال ذهن حتى في أخص خصائص جامعة الأزهر وهو الدين والعقيدة.

ومن الأمثلة الواضحة في هذا الصدد، الدورات التي يقدمها المركز، ومن بينها دورة «خرائط المنهج، وتوصيف المقررات، وتقويم نواتج التعلم»

وهذه الدورة كغيرها لا تجد في الكتاب الصادر بشأنها من المركز آية قرآنية ولا حديثا نبويا، ولا أثرا كريما،

ولا أدنى إشارة إلى سبق إسلامي إلى بعض المعاني الجميلة التي وردت في كتاب الدورة.

والأسوأ من ذلك كله أن كتاب الدورة وردت به مخالفات خطيرة لإسلامنا وديننا، ومنها على سبيل المثال:

ما جاء في الكلام على الوسيلة الرابعة من وسائل التدريس، وهي وسيلة «العصف الذهني»

حيث جاء في الكتاب: «ويقصد به إنتاج أفكار إبداعية، لحل مشكلة معينة، بتهيئة العقل للتفكير في كل مجالات الحياة،

والنظر في كافة الاحتمالات لتوليد أكبر قدر من الأفكار حول المشكلة المطروحة، بدون أي تحفظ أو قيود على هذه الآراء والأفكار»

ثم قال: «حرية التفكير، أي التحرر مما قد يعيق التفكير الإبداعي، ومن ثم إطلاق العنان للفكر، بما يشجع الطلاب على التفكير فيما وراء الحلول التقليدية»

وإطلاق العنان للفكر دون أي تحفظ أو قيد أمر خطير ينكره الإسلام، لكن في الوقت نفسه يجب أن نعلم أن الإسلام دين يحترم العقل،

ويحض على الفكر والتدبر، بل ويوجب العصف الذهني قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، وقد دل على ذلك كثير من آيات القرآن الكريم قال جل جلاله:

﴿قلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ﴾ [العنكبوت: 20]

وقال تبارك وتعالي: ﴿قلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَا تغۡنِي ٱلۡأٓيَٰتُ وَٱلنّذُرُ عَن قَوۡمٖ لَّا يؤۡمِنُونَ﴾ [يونس: 101]

لا يجوز أن تسأل من خلق الله؟

والآيات في ذلك كثيرة جدا لكنه نظر وتفكر وتدبر مضبوط بضوابط الشرع، فلا يجوز أن تسأل من خلق الله؟

ولا لماذا نصوم شهرا؟ وليس أقل ولا أكثر؟ ولا يجوز أن تسأل لماذا نصلى الظهر أربعا؟ وليس ثلاثا ولا خمسا؟

ولا لماذا الله جل جلاله لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون، وهذه الحدود، وتلك الضوابط لمصلحة العقل، ولمصلحة الفكر،

لأن عقل الإنسان قاصر عن إدراك الكثير من حقائق الوجود، قال جل جلاله:

﴿وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِۖ قلِ ٱلرُّوحُ مِنۡ أَمۡرِ رَبِّي وَمَآ أوتِيتُم مِّنَ ٱلۡعِلۡمِ إِلَّا قَلِيلٗا﴾ [الإسراء: 85]

فالفكر البشرى عاجز عن إدراك كنه الموت والحياة والروح والكهرباء وكثير جدا مظاهر الوجود، فعليه أن يلتزم بضوابط الشرع حتى لا يضل ويشقي.

وهذه واحدة من أمور جلل تستوجب إعادة النظر في معايير تطوير التعليم، وعلى مراكز الجودة،

وإدارات التطوير التربوي في العالم العربي والإسلامي أن تأخذ أحسن ما توصلت إليه الحضارة الإنسانية في مجال تطوير التعليم من أي مكان في الدنيا،

بشرط واحد فقط وهو أن لا يتعارض مع ديننا الإسلامي العظيم.

د. حلمي الفقي

أستاذ الفقه والسياسة الشرعية المشارك بجامعة الأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى