د. حلمي الفقي يكتب: كيف تنهش الكلاب أجساد الشهداء؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن للشهيد عند الله عز وجل منزلةً عاليةً، ومكانةً ساميةً، وثوابًا عظيمًا، وفضلًا كبيرًا، وقد دلَّ على ذلك كتاب ربنا، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في آيات كثيرة، وأحاديث وفيرة، منها، قوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169، 170].
ومن السنة: ما صحَّ عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للشهيد عند الله سبع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويُحلَّى حلَّة الإيمان، ويزوَّج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتةُ منه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين إنسانًا من أهل بيته؛ رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يجد الشهيد من مسِّ القتل، إلا كما يجد أحدكم من مسِّ القرصة.
وعن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله»؛
رواه الحاكم، وصحَّحه.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، إذا كان الشهيد في هذه الدرجة الرفيعة، وإذا كان قد ارتقى إلى الله شهيدًا، فلماذا تنال منه أيدي الأعداء، ولماذا تتركهم السماء، تنهشهم الكلاب، ولماذا لا تحفظهم عناية الرحمن من عبث الطغيان، وبطش الغلمان؟
وللإجابة عن هذا السؤال:
نقول بعون الله وحده:
أولا:
دفن الكافر فرض واجب في دين الإسلام، حتى لو قُتل وهو يحارب المسلمين، وحتى لو تم إعدامه بسبب الخيانة العظمى للوطن الذي يعيش فيه، ولا يجوز شرعا التمثيل بجثمان القتيل حتى لو كان كافرا
هذا هو دين الإسلام، وهذه أحكام القرآن، وهذا هو هدى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد انتهاء غزوة بدر الكبري، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفن جثامين القتلي من كفار قريش الذين قتلوا في المعركة، ولم يمثل بهم، ولم يتركهم للكلاب تأكلهم، أو تنهشهم، هذه هي إنسانية دين الإسلام وهذا هو نبي الرحمة للعالمين كافة، وليس للمسلمين خاصة.
ثانيا:
في غزوة الأحزاب قام يهود بني قريظة بطعن المسلمين من الخلف، وتحالفوا مع الأعداء الذين جاءوا من كل فج عميق، وضربوا حصارا قاتلا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكادوا أن يبيدوها عن بكرة أبيها، وفى هذا الوقت العصيب، فعل يهود بني قريظة فعلتهم، وخانوا الوطن، لكن خيب مسعاهم، وانتهت المعركة بهزيمة الأحزاب، وانتصار المسلمين، فكان لابد من محاكمة الخونة، وفى نقلة حضارية لم تعهدها الإنسانية حتى يومنا هذا، عقد النبي صلى الله عليه وسلم محاكمة عادلة للخونة الذين خانوا الوطن خيانة عظمة، وفوض للخونة حق اختيار القاضي الذي يرأس المحكمة، فاختاروا سعد بن معاذ، الذي حكم بقتل الرجال المقاتلين فقط، وعفا عن النساء والصبيان، وبعد تنفيذ حكم الإعدام، أمر نبي الرحمة ونبي الإنسانية بدفن جثث الخونة بعد إعدامهم، ولم يُمثل بهم، ولم يتركهم في العراء طعاما للكلاب،
ثالثا:
هذه حضارة الإسلام، وهذه رحمة المسلمين بالأعداء المحاربين، وبالخونة المنافقين، وهذا التحضر والرقي والرحمة والإنسانية التي ارتقي إليها الإسلام قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، لم تعرفها أوربا ولا أمريكا ولا العالم أجمع حتى يومنا هذا، مما يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الإسلام هو سبيل الخلاص الوحيد للبشرية من كل ما تعانيه وتكابده من فجرات وغدرات، وخصومات وويلات.
رابعا:
إن حياة الإنسان هي أغلى ما يملك في هذه الحياة، وإذا كان الإنسان قد بذل حياته رخيصةً في سبيل مرضاة ربه، فلا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها، أما التمثيل بجثث الشهداء، وعدم دفنها، وعدم تمكُّن البعض من الصلاة عليها، ومواراتها الثرى، وربما تأكلها الكلاب، وربما حيوانات أخرى تنهش جثامين الشهداء وتفتك بهم.
فمن المعلوم أن كل أذى ينزل بجثمان الشهيد هو أجر جديد، فإذا نهشته الكلاب فهذا أجر جديد، وإذا مَثَّل الأعداء بالجثمان، فهذا أجر فوق الشهادة، وإذا ترك الجثمان حتى تحلل وفاحت منه رائحة كريهة، فهذا أجر فوق الشهادة، وإذا لم يجد الشهيد من يواريه الثرى فهذا أجر شهادة أخرى؛ لأن الله عز وجل أخبرنا أن ما يصيب المسلم من هَمٍّ أو غَمٍّ أو أذًى إلا كفَّر الله عنه من خطاياه، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، كما ثبَت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل”، وقال: “يُبْتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه”؛ رواه أحمد والترمذي، وقال: حسن صحيح.
فما ينزل بجثامين الشهداء من بلاء يضاعف الأجر والثواب، ويُكفِّر السيئات، ويرفع الدرجات، ويباعد من الخطيئات، ويضاعف الحسنات.
خامسا:
لا يضير الشهيد أن تنهش جسده الكلاب، فهذا لا ينقص من منزلته عند ربه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على حمزة رضي الله عنه وقد مثّل به، فقال: “لولا أن تجد صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية حتى يُحشر من بطونها”.
العافية: السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها.
وأما هو فعند ربه روحه في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش.
سادسا:
أما ما يفعله الاحتلال من ترك جثامين الشهداء تأكلها الكلاب فهو أولا: جريمة ضد الإنسانية، لا يفعلها إلا أعداء الإنسانية، وما أكثر جرائمهم ضد الإنسانية، وقد صدق ربنا سبحانه وتعالي في وصفهم فى كتابه الحكيم حين قال: ﴿ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ﴾ [البقرة: 74]
وثانيا: هذا جرم كبير، وإثم عظيم، وطغيان خطير يضاف إلى سلاسل جرائمهم التي لا تنتهي في حق البشر والشجر والحجر
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.