مقالات

د. خالد فهمي يكتب: الطوفان الجديد «5»

◾ يقول رب العزة سبحانه ﴿فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا﴾ [سورة الإسراء 17/5].

 ◾هذه آية بشارة سيقت مساق الخبر التاريخي، والتاريخ في النموذج المعرفي الإسلامي مادة اعتبار، ومادة إلهام للأمة.

◾الآية تقول إن الله يخبرنا عن أولى مرتي الإفساد، وهو ما يظهر من وصل هذه الآية بما قبلها بداله الفاء في مفتتحها، الآية تقول إن مرة الإفساد الأولى، الكبرى واقعة سبق الإخبار عنها إجمالا في ﴿مرتين﴾، وواقعة؛ لأن الله قضى بها، وأبلغ عنها  لتكون تمهيدا بين يدي المرة الآخرة، وأملا للأمة التي ستصطلي بفساد هؤلاء المجرمين قبل أن يبعث عليهم عباده في المرة الآخرة، ومكمن الأمل في حمل الجماعة المسلمة على الاطمئنان العملي المستند إلى السابقة التاريخية التي تحقق فها انكسار هؤلاء المجرمين في المرة الأولى ﴿بعثنا عليكم﴾ في الآية إرسال يتسلط وتسخير وقهر وإذلال، بقرينة تعلق الفعل بحرف الجر على ، إذ هي صرفته إلى هذا المعنى، وضمنته إياه، ولو كان البعث هو إرسال الوحي لتعلق الفعل بإلي، وقد جاء الفعل (بعث إلى) ليدل على أن الذين أرسلهم الله لتخليص العالم من شرور هؤلاء المجرمين قائمون لله بحقه وطاعته فهو إرسال تسلط محقق ومنفذ لإرسال الوحي!

و﴿بعثنا عليكم﴾ توكيد بدلالة الماضي، وعلامة قيوميتة بدليل إسناد الفعل إلى الله تعالى، وعلامة إعانة بدليل الضمير الدال على الجماعة و﴿نا﴾ المتصل بالفعل دليل على العظمة، ودليل على تكليف الملائكة بمعاونة المبعوثين المسلطين المأمورين بمواجهة إفساد هؤلاء المجرمين الأجداد.

و﴿عبادا لنا﴾ هم المبعوثون المكلفون بالتسلط على المجرمين وهم كثير ساعتئذ بقرينة الجمعية وبقرينة التنكير النحوي، وهم محققون في أنفسهم شروط العبودية لله تعالى، بقرينة ” الإضافة” المتحققة بشبه الجملة ﴿لنا﴾، والتحليل النحوي يقول إن عبادا لنا تركيب عريق تاريخيا يكافئ المركب عباد لنا، المركب من مضاف ومضاف إليه، و﴿عبادا لنا﴾ منحت هؤلاء المبعوثين تشريفا بهذه الإضافة ومنحتهم قوة بموجب هذه الإضافة التي انعكست دلالتها عليهم،  ﴿عبادا لنا﴾ تقول إن هؤلاء المبعوثين داخلون في ضمان الله، وواقعون تحت سلطان قيوميته ، ورعايته، صنعوا على عينه سبحانه واحتازوا هذا المقام الشريف تهيئة للمهمة النبيلة التي قاموا بها، ولكي ينصبوا مناهج وقدوات ين يدي الجيل الآخر الذي سيأتي بعد مرة الإفساد الكبرى الثانية ﴿أولي بأس شديد﴾ هذه العبارة تنهض بالتوكيد، صحيح أنها تصف ﴿عبادا لنا﴾ التي عوملت نحويا معاملة المعرفة بموجب أن «لنا» نهضت بوظيفة التعريفة وكافأت المضاف إليه ولكن هذه النعت نهض بوظيفة دلالية تبعته سياقية هي التوكيد؛ ذلك أن مقتضي العبودية الحقة لله تستصحب حيازة من تحققت فيهم للقوة والبأس لزوما، لكن الكتاب العزيز في هذا الموطن العزيز لم يترك لهذه الدلالة أن تتحقق بقانون اللزوم ، وإنما بقانون التصريح والتوضيح ، فجاء نعتهم أنهم أصحاب قوة أشداء.

﴿فجاسوا خلال الديار﴾ إخبار عن التسلط وترجمة للبأس الشديد ﴿جاسوا﴾ في الآية انتشروا، وكثروا، وتحركوا، و(جاسوا) في الآية قتلوا، و(جاسوا) في الآية تنقلوا، وحازوا المعرفة الجغرافية والطبوغرافية والاستخباراتية (جاسوا) في المعجمية العربية تحركوا ونزلوا ومشوا وترددوا بين الأماكن

﴿فجاسوا خلال الديار﴾ جملة عبقرية تكشف عن الاستراتيجية الناجعة في مواجهة هؤلاء المجرمين التي تقوم على المواجهة المباشرة والالتحام البري الذي هو أنجع السبل معهم لجبنهم وتأصيل الخوف في نفوسهم ﴿فجاسوا خلال الديار﴾ جملة خبرية تتحرك بحمولات الأمر، الأمر بضرورة عناية المقاومة ببرامج الجغرافيا العسكرية، والطبوغرافية العسكرية والمساحة العسكرية، لكي يستطيعوا التنقل والحركة بين الديار.

﴿فجاسوا خلال الديار﴾ جملة خبرية تتحرك بحمولات الأمر الواجب بتحصيل العلم بالتكوين المعماري، وبخصائص الديار التي يبنيها العدو وبخصائص الطرق التي يبنيها العدو، لأن هذه المعرفة جزء من إدارة المعرفة لمواجهة العدو بعد مرة الإفساد الآخرة.

﴿فجاسوا خلال الديار﴾ جملة خبرية تتحرك بحمولات الأمر الواجب بضرورة تحصيل ما به الانتشار بين صفوف العدو بطرق التخفي لكي لا ينكشف أمر هؤلاء المأمورين بأن يجوسوا خلال الديار.

و﴿خلال الديار﴾ نص قديم مذهل في أن هذا العدو كل أبنائه عدو، وكل أبنائه غير مدني.

﴿خلال الديار﴾ تقول وتفضح وتكشف وتأمر بالاستعداد لمواجهة هذا العدو إن تحول إلى استراتيجية تحويل شعبه كله إلى جيش مقاتل وهو في دياره، وهذا هو الحاصل الآن.

﴿خلال الديار﴾ أسقطت الدعاوى الكاذبة بإن ثمة مدنيين في صفوف الصهاينة!

ويختم الله الآية الجليلة فيقول ﴿وكان وعدا مفعولا﴾ أي أن الله ضامن لتحقيقه، وقيوم على تحقيقه ﴿وكان وعدا مفعولا﴾ إخبار يتحرك بحمولات البشرى، والإخبار يتحرك ببث الأمل في صفوف المجاهدين والمقاومين أن الله معهم، ضامن لنصرهم راع لتحركاتهم ما حققوا في نفوسهم الشروط التالية:

أولا- احتياز العبودية لله في نفوسهم

ثانيا- احتياز المؤهلات اللازمة للجوس خلال الديار، من المعرفة المادية والمعرفة الإنسانية معا

ثالثا- احتياز القوة والبأس

الآية الكريمة تزف البشارات بين يدي قادم الانتصارات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى