في إحدى ليالي صيف عام ١٩٩٥ أقلعت بنا الطائرة من مطار الإسكندرية متجهة إلى مطار الدوحة، وكان الهبوط في مطار الدوحة بعد منتصف الليل بقليل، استقبلني عديلي الشيخ طارق قطب في المطار، وكنت قد تأخرت في إجراءات الدخول بسبب نسياني لاسم الشركة صاحبة الدعوة لزيارة قطر..
انطلق بنا الشيخ طارق إلى حيث سأقيم، وكان يعرف حبي الكبير للشيخ عبد الرحيم الطحان حفظ الله مهجته وبارك في عمره، ويعرف أيضا اشتياقي الشديد للقائه، فقال: سنضع الحقائب في السكن ونتجه لصلاة الفجر مع الشيخ؛ خلاص أوشكنا على أذان الفجر..
وصلنا المسجد ولما دخلنا وجدت شابا يصلي بالناس؛ جميل الصوت خاشع الأداء، فقال لي الشيخ طارق: هذا حمزة ابن الشيخ الطحان؛ هو الإمام الرسمي للمسجد، والشيخ يصلي الفجر خلفه.
انتهت الصلاة وأنا في غاية الشوق لرؤية وجه الشيخ الذي طالما سمعته من ١٠ سنوات مضت أيامها! وتربينا على أشرطته..
فمن ينسى شريط: البكاء من خشية الله؟
ومن ينسى شريط: الخوف من سوء الخاتمة؟
ومن ينسى شريط: تحريم الغناء؟
إلى آخر أشرطته التي كانت تنتشر بين الشباب ويسمعها الآلاف!..
قام الشيخ طارق فسلّم على الشيخ وقال له وهو يشير إلي: هذا عديلي فلان جاء من مصر للتوّ وطلب لقاءكم قبل أن يستريح أو يغيّر ملابسه..
كانت فرحتي كبيرة ودهشتي أشد؛ فقد احتضنني الشيخ كأنه هو المشتاق إلى رؤيتي، واستقبلت أذناي صوته لأول مرة من غير الأشرطة، وهو يقول: أهلين أهلين.. يا مرحبا بالحبيب من البلد الحبيب.. كيف تركت مصر؟ وأهل مصر؟ ومن كمصر وأهل مصر؟ وطفق يسألني عن قرى باسمها في البحيرة وريف مصر؛ يؤنسني ويسكن من روعي..
ثم قال: تفطرون معي؛ هيا إلى البيت، هيا يا ولدي، وظل الشيخ في تسابيحه وأذكاره واستغفاره.. وأظنه قد اختصر في ورده كثيرا يومها، كما عرفت ذلك فيما بعد..
لا يمكن أن أصف فرحتي بلقاء الشيخ ولا يمكنني التعبير عما كنت أشعر به وقتها.. أنا عاجز عن وصف ذلك فعلًا.. ولم أكن أصدق نفسي وقتها أني في بيته وبين يديه يطعمني بيده التمر والمعمول وبعض ما أعدّه أهل بيته لإفطارنا، وأنه يصبّ لي القهوة بيديه..
أعطاني الشيخ رقم بيته وقال: كلمني أي وقت. ولم تكن أجهزة هواتف المحمول قد ظهرت؛ إنما كانت هناك أجهزة نداء آلى تسمى (البليب) عندما تدق يفهم منها صاحبها أن يتصل بمن يطلبه على الهاتف الأرضي.
التقيت بالشيخ بعد ذلك بأيام قليلة في وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف القطرية فقد كان مستشارا بها وعضوا في اللجنة التي عقدت لي امتحانا في القرآن الكريم والفقه والعقيدة؛ ليتم تعييني رسميا إمامًا وخطيبًا للمسجد الجامع بمدينة الشمال بشمال قطر.. وكنت أرجع للدوحة فأحضر دروس الشيخ الطحان الموسوعية التي تكون في الحديث والفقه واللغة والتاريخ.. فالرجل مُلئ علمًا، وهو -بحق- جامعة متنقلة، ولا يمكن أن أوفّيه حقّه في هذه العجالة..
وأما عن أدبه، ورقة قلبه، وحلاوة طبعه، وخفة ظلّه، وثاقب ذكائه، وموفور فطنته، وجمال تأتيه، وروعة منطقه، ولطف أسلوبه، وحسن ظنه بالمسلمين من إخوانه، وكرمه وسخائه، وإرخائه يديه بالعطاء.. كل ذلك شيء فوق الوصف، وسبحان من (يزيد في الخلق ما يشاء)..
وما إن علم الشيخ بارك الله في عمره بقراري بعد أقل من ٣ شهور، ورغبتي في العودة إلى مصر ومغادرة قطر، إلا وكلمني وحاول إثنائي وسألني عما يضايقني وتلطف معي وحاول كثيرا أن يثنيني عن قراري، فلما رآني مصرا قال لي في الهاتف: خلاص أشوفك قبل ما تسافر ضروري.
ذهبت إليه في الدرس، وبكيت معظم وقت الدرس الأخير على فراقه الوشيك.. ثم وقفت واستأذنته في الانصراف لضيق وقتي؛ فأوقف الدرس ووضع (المايك) من يده وأشار إلي أن أذهب إليه؛ فاحتضنني وودعني ووضع في يدي ظرفًا؛ وجدت به مبلغا كبيرا، ولما كلمته فيه في الهاتف ضحك وقال: سآخذ راتبك من الوزارة مكانه. ثم ضحكنا وودّعته بالبكاء منتحبًا..
الشيخ عبد الرحيم الطحان رجل بُعث في زماننا نعم، لكنه من زمن السلف.. أوصي نفسي وإخواني بالاستماع لدروسه والانتفاع بعلمه، وترك ما لا يعجبنا عنده؛ فالكمال لله وحده، وكل يُؤخذ من قوله ويردّ إلا النبي صلى الله عليه وسلم.