د. صالح الرقب يكتب: خطورة الدعوة إلى الدِّيانَةُ الإبراهيمِيَّةُ وحكمها شرعًا (1)
إنَّ من المعلوم بداهةً عند كل مسلمٍ موحدٍ أنَّه لا دينَ مقبول عند الله تعالى إلاَّ الإسلام، يقول الله عزَّوجلَّ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَام وَمَا ٱختَلَفَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا ٱلكِتَـٰبَ إِلَّا مِنبَعدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلعِلمُ بَغیَا بَینَهُم وَمَن یَكفُر بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلحِسَابِ) آل عمران:19، والإسلام هو الإذعان والاستسلام والخضوع لله تعالى، وعبادته وحده، والإيمان به وبرسله وبما جاءوا به من عند الله، ولكل رسول شرعة ومنهاج، حتى ختمهم الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأرسله للناس كافة، فلا يقبل الله من أحد دينًا بعده إلاَّ الإسلام الذي جاء به صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) آل عمران:83-85 .والمؤمنون من الأنبياء السابقين وأتباعهم كلُّهم كانوا مسلمين بالمعنى العام، يدخلون الجنة بإسلامهم، فإذا أدرك أحدهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقبل منه إلاَّ اتباعه، فعن أبي هريرة عن رسول الله صـلى الله عليه وسلم أنَّه قال: “والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بي أحَدٌ مِن هذِه الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، ولا نَصْرانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ ولَمْ يُؤْمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به، إلّا كانَ مِن أصْحابِ النّارِ”، أخرجه مسلم (153).
ولقد ردَّ الله تعالى محاجَّة اليهود والنصارى ومجادلتهم لمَّا ادَّعى اليهود أنَّ إبراهيم كان يهوديًّا، وادَّعى النصارى أنَّه نصراني، وجادلوا على ذلك، فقال الله تعالى:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)
آل عمران:65-68.
والإسلام في لغة القرآن ليس اسمًا لدينٍ خاصٍ، وإنَّما هو اسمٌ للدِّين المشترك الذي هتف به كلُّ الأنبياء عليهم السلام ودعوا أقوامهم إليه، فنبي الله نوح عليه السلام يقول لقومه: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يونس:72، والإسلام هو الدين الذي أمر الله تعالى به أبا الأنبياء إبراهيم عليهم السلام:
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) البقرة:131،
ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب أبناءه قائلاً: (فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) البقرة:132، وأبناء يعقوب يجيبون أباهم: (نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة:133،
وموسى يقول لقومه: (يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) يونس”:84،
والحواريون يقولون لعيسى عليهم السلام: (آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) آل عمران:52، وحين سمع فريق من أهل الكتاب القرآن الكريم (قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) القصص:53.
وبالإسلام أمر الله البشرية، كما قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة:136.
اخترع أعداء الله وأعداء دينه الحق “الإسلام” ما سَمَّوه بالديانة الإبراهيمية لمواجهة الإسلام الدين الحق، ومواجهة الصحوة الإسلامية التي أخذت تنتشر في الأرض، ولمواجهة الدعاة المخلصين لربهم تعالى ولدينهم الذين يظهرون جمال الدين الإسلامي ومحاسن تشريعاته، ولتمرير مشاريع التطبيع مع المحتلِّين الصهاينة أعداء الله والمسلمين، وتجريم الجهاد لمقاومة الاحتلال الصهيوني الغاصب لفلسطين، بزعم أنَّهم أصبحوا إخوةً في الدين الإبراهيمي ظهر وشاع في الآونة الأخيرة ما يُسمَّى “الديانة الإبراهيمية” أو “الدين الإبراهيمي العالمي”، نسبة إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فالمقصود بما يُسمَّى “الدِّيانَةُ الإبراهيمِيَّةُ” هو: الخلط بين دين التوحيد دين الإسلام الحق الذي تكفَّل الله بحفظه، وبين اليهودية والنصرانية المحرَّفتين، وما فيهما من كفريات وضلالات، بزعم أنَّها كلُّها تنتسب إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، نظرًا لرمزيته في الشرائع السماوية الثلاثة، وهي دعوة سابقة قديمة، فقد أطلقها بعض اليهود والنصارى، إنَّهم يريدون أن يتنازل المسلمون عن أحقية عقيدتهم الصحيحة، بأنْ يقبلوا -على الأقل- اعتبار أديان اليهود والنصارى أديانَ حقٍ ونجاةٍ في الآخرة، ولكنْ كان الجواب واضحًا صريحًا في القرآن الكريم: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) البقرة:135.
وقد قيل أنَّه ما تمَّ التوافق بين أعضاء اللجان المشتركة في هذا المشروع عليه من عقائد يجمع في كتاب واحد، تطمح المؤسسات التي صمَّمَت المشروع ورعته إلى جعله كتابًا مقدسًا بديلًا للكتب المقدسة الثلاثة: القرآن، العهد الجديد، العهد القديم.
فقال في تعريف الدِّيانَةِ الإبراهيمِيَّةِ أحد دعاته وهو الشيخ عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السلم، قال: “على أننا نحن جميعًا المسلمين واليهود والنصارى أبناء العائلة الإبراهيمية، وأنَّ الديانة الإبراهيمية هي التي نتشارك فيها”. بينما أوضح السفير الأمريكي لدى ما يسمى إسرائيل –في عهد الرئيس ترامب- أوضح أن سبب إطلاق تلك التسمية على الاتفاق يرجع إلى أن “إبراهيم كان أبا لجميع الديانات الثلاثة العظيمة، فيشار إليه باسم (أبراهام) في المسيحية، و(إبراهيم) في الإسلام، و(أبرام) في اليهودية، لافتا إلى أنه “لا يوجد شخص يرمز إلى إمكانية الوحدة بين جميع هذه الديانات أفضل من إبراهيم، ولهذا السبب تمت تسمية هذا الاتفاق بهذا الاسم”.
لقد نشأت الفكرة الخبيثة “الدِّيانَةُ الإبراهيمِيَّةُ” وتطورت في أوائل التسعينات، وذلك في رسالة من رجل يُدعى سيد نصير – مواطن مصري المولد أمريكي، وسجين مصري في السجون الأمريكية متهمٌ بالإرهاب، وبقتل الحاخام اليهودي مائير كاهانا- وتتضمن هذه الرسالةُ فكرةَ مشروع “الاتحاد الإبراهيمي الفيدرالي”، وتهدفُ لتحقيقِ المصالح الأستعمارية الأمريكية، وتقليصِ الصراعات في الشرق الأوسط. وقد أرسلت هذه الرسالة إلى عدَّةِ شخصياتٍ أمريكيةٍ، منهم هيلاري كلينتون، لكن دون جواب من أيّ منهم. وفي عام 2000م تمَّ تبنِّي الفكرةَ عمليًّا وتمهيد الطريق لها حينما تسلَّم نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني رسالة سيد نصير وردَّ عليه قائلًا: “وصلت الرسالة”.
وفي عهد الرئيس الأمريكي أوباما أخذت الفكرة زخمًا واهتمامًا كبيرين مقرونًا بمبادراتٍ تمهيديةٍ في أرض الواقع السياسي والثقافي والأكاديمي كما يظهر ذلك من زيارة أوباما للقاهرة.. وفي عام 2004م تمَّ بلورة المصطلح والفكرة أكاديميًّا من خلال تبني بعض الجامعات له بالبحث الأكاديمي والتسويق العلمي، وإنضاج المشروع مؤسساتيًّا من خلال تهيئة الأرضية المؤسساتية والمجتمعية والفكرية والنفسية لتبنِّي الإبراهيمية، وكذلك التطبيقات التمهيدية بالتنفيذ الجزئي للمسار الإبراهيمي مع برامجه التنموية والسياحيَّة. وفي عام 2020م كان اكتمال نضج المشروع والتنفيذ المعلن والنشط له في ظل إدارة ترامب ونتنياهو والتي كانت موجات التطبيع أهم ملامحها وبرامجها.
وقد تَحدَّثَ جاريد كوشنير – رجل أعمال ومستثمر أمريكي يهودي أرثوذكسي- في مقابلة سابقة مع محطة سكاي نيوز في 28 فبراير 2019م عن الإبراهيمية بشكل مقتضب، وهناك العديد من السياسيين الذين أشاروا للفكرة في معرض حديثهم خلال مناسبات سابقة مثل هيلاري كلينتون التي عملت منذ عام 2013م على تسويق هذه الفكرة والرئيس باراك أوباما وعدد من أقطاب السياسة الدولية في العالم مثل توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، له جمعيتان للشرق الأوسط وافريقيا، للاهتمام بدعم الحوار الإبراهيمي، وما زالت تصدَّر لنا حتى اليوم بثوبها الجميل، وقد وجدت بعض التعاطي الرسمي على الأرض العربية من خلال بعض الأعمال التي أقيمت من أجلِّهَا المعبدُ الإبراهيمي، ومحاولةُ حذفِ بعض الآيات والأحاديث من المناهج الدينية التي قد تفسر بشكل خاطئ مما يترك في ذهنية الأبناء مشتركات سلبية لا يراد لها الظهور حتى وإن كان الإلغاء على حساب القرآن والسنة المحمدية وذلك توازيا مع هذه المشاريع.
وقدْ عُلِمَ بأنَّ وراءَ مصدرِ ونشأة الدِّيانَةُ الإبراهيمِيَّةُ مراكزٌ بحثيةٌ ضخمةٌ وغامضةٌ، انتشرت مؤخراً في ربوع العالم، وأطلقت على نفسها اسم “مراكز الدبلوماسية الروحية”، وأنَّه يعمل على تمويل تلك المراكز أكبر وأهم الجهات العالمية، مثل: الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والولايات المتحدة الأميركية. وسبق أن ظهرت في الأفق السياسي عام 1990م لحل النزاع العربي الإسرائيلي، وبدأت تتشكل فكرتها في أروقة السياسة الدولية، من خلال عدد من المؤسسات البحثية على رأسها لجنة الإبراهيمية التي قدمت في جامعة هارفرد كبرى الجامعات العالمية والمرتبطة مع مراكز القرار السياسي في العالم كالخارجية الأميركية والبنك وصندوق النقد الدوليين، إضافة إلى عدد من المؤسسات العالمية كمعهد الحرب والسلام وجامعة فلوريدا وغيرها لتقديم الفكرة بكل تفاصيلها خدمة للمشروع الاستعماري في المنطقة.
ومع الأسفٍ الشَّديد أنْ تَتَولَّى دولةٌ عربيةٌ خليجيةٌ بقوةٍ الدعوةَ لهذه البدعة الكفرية الجديدة. وأعلنت هذه الدولة في وقت سابقٍ عن خططها لإنشاءِ صَرْحِ يجمعُ بين الديانات السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، والذي سيضم كنيسة ومسجدا وكنيسا، ومن المقرر بناءه في جزيرة بعاصمتها، ومن المتوقع اكتمال منشآته عام 2022م.