بحوث ودراسات

د. عامر الخميسي يكتب: أعظم نازح في التاريخ

{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}

كانَ مُطاردا يَمشي حافيا يَقطع الصّحاري والقِفار إلى غيرِ وِجهةٍ فارّا من المتآمرين على قتلهِ يبحثُ عن مكانٍ آمنٍ يأوي إليه..

بَقيَ هائما على وجهِ مسافةً طويلة لِيخرجَ من حدود دولتهِ لا يدري إلى أين يتّجِه.. ولا أيّ طريق يسلك غير أنه من قسوة النّزوح يبحث عن مكان يَختفي فيهِ عن الأنظار..

في تلك الأثناء كان الجوعُ يحاصره، يفتكُ بأحشائه، والعطش يمزّق أمعاءَه ويَقطع حلقهُ فوردَ تلك البئر..

قال ابن عباس: «سار موسى من مصر إلى مدين، ليس له طعام إلا البَقل وورق الشجر، وكان حافيًا فما وصَل مَدْيَن حتى سَقطت نعلُ قدمه. وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه لاصقٌ بظهرهِ من الجوع، وإنّه لمحتاج إلى شق تمرة.»

جوعٌ شديدٌ ألهبَه بسياطه..

الأمعاءُ تُقرقر..

البطنُ التصقَ بالظّهر..

احتفت قدماهُ من طولِ المسافة وكَثرةِ المشي..

أتخيّله وهو يَترنّح يَكاد يسقط أرضا من الإعياء..

لمّا وردَ ماء مدين وجد تلك الفتاتين فرقّ لهما ورحمهما لما رأى من ذودهما لأغنامهما بعيدا عن الناس..

{وَلَمَّا وَرَدَ مآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ}

وجَدَ جماعة من الناس يتزاحمون لسقي دوابهم ويستأثرون بالماء دون النّساء، وهناك امرأتان تبذلان جهدهما تذودان وتكفكفان غنمهما من الورود..

*مشهدٌ مؤثرٌ يراهُ موسى ويراقبهُ عنكثَب فتقدم إليهما يسألهما:

{قَالَ مَا خَطْبُكُمَا؟ قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِير}

 من عادتنا أن لا نَسقي دوابنا حتى ينصرفَ الرّعاة، ويصبح الماء خاليا لنا، لأننا فتيات لا قدرة لنا على السّقي وسط هذا الحشد الكبير من الرعاء فنفضّل الانتظار ودفع الأغنام على الاختلاط بالرجال ومزاحَمتهم..

{وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} ليس عندنا رجلٌ يقوم بهذه المهمة ويزاحم الناس، وأبونا لا يقدر على السقي لشيخوخته وكبرهِ وضعفه.

 وفي هذا استعطافٌ لموسى وشهامته ونخوتهِ وقوتهِ..

فماذا عساه أن يَصنع بعد هذا الحوار المؤثّر؟

{فَسَقَى لَهُمَا} غيرُ طالب منهما الأجرة على السّقيا مع أنه بحاجةٍ إلى لقمة يسدُّ بها جوعه وهذا لعمر الله خلق النبلاء وشيمة العظماء

يا لمشاعركَ يا موسى!!

يا لنبضِ قلبك!!

كم أنت محبٌ لعملِ الخير وإسداء المعروف دون أجرةٍ وأنت على شفا هلكة..

لقد كنتَ في أشدِّ الاحتياج لأبسط المعروفِ والعطاءِ ومع ذلك التّضحية عندك مبدأ..

{سَقى لَهما} وكان ذلك وقتُ شدّة الحر، والشّمس تضرب الرؤوس وتصلي الأجساد وترسل أشّعتها نارا ولهبا على الأجساد وفور السقيا: {تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} مستريحا لتلك الظلال بعد التعب والشدة وحر الشمس.

{فَقَالَ} في تلك الحالة، مُسترزقا ربه لائذا به خاشعا مستكينا له:

{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}

أي: «إنّي مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي، غنيٌ عن خلقكَ. وهذا سؤالٌ منه بحالهِ؛ والسؤال بالحال: أبلغ من السؤال بلسان المقال».

وقد ذكر علماءُ التّفسير أنّ هذا مِنهُ عليه السلام سؤال بالحال، واكتفاء بإظهار حالهِ من الفقرِ والحاجةِ بين يدي ربهِ عن التصريح بالسؤال.

وهذا كقول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

وقولِ يونس عليه السلام: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}

فهو يعرضُ حالهُ على الله وفقرهُ ومسكنتهُ والله عليمٌ بكلّ شيء..

{إنِّي لما أنْــزَلْــتَ}

حرف (إنّ) المشبّه بالفعل يفيد التّوكيد فهو في أمسّ الحاجة لغوثٍ عاجلٍ، وكأنّ تشديد النّون والضغط عليها يُشعرك بمدى الضعف الذي وصل إليه موسى فـ{إنّ} توحي إليك برنّتها مدى الأنين المُنبعث من قلبِ موسى.

لقد كان حاله:

‏إليْكَ إليكَ يا ربِّي أسيرُ

وإنِّي فِي هوىٰ نفسِي أسِيرُ

أتَيتُ إليكَ ملهوفاً و َ(إنِّي لمَا أنزلتَ) (مِن خَيرٍ فقيرُ)

من ينقذُ الملهوف إلا أنت يا رب..

من يسمع دعاء من تاهَ في الصحراء إلا أنت..

كأنّي بمشاعر موسى تنادي وخواطره تبوحُ بذلّ المسكنة.

يا رب غوثك..

أنا فقير على بابك..

منطرح على عتبات رجائك..

ها أنذا أمامك.. لا قريب ولا حبيب..

 ولا مُجير ولا نصير..

*أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الوالهِ الضرير.

إلهي انقطعت بي السبل..

وضاقت بي المسالك..

وأغلقت في وجهي الأبواب..

وما عدت أدري أين الطريق..

كان حال موسى:

إلهي فيكَ قد أحسنتُ ظنّي

ومن ذنبي بِعفوكَ أستجيرُ

ومهما كنتُ في خيرٍ فإنّي

لما أنزلتَ من خير ٍفقيرُ

{مِنْ خَيْرٍ} نكرة في سياق السؤال تفيدُ العموم..

منتظرٌ بفارغِ الصّبر أيّ نوع من أنواع الخير، سواء كان طعاما أم شرابا أم ثيابا، أم مسكنا..

وما كان في حسبانه أن ذلك الخير هو قلبٌ سيبثّه قِصته الحزينة وشكواه الأليمة، ثمّ سيفيض هذا القلبُ حنانَا وأمَانا.

كان مهيضَ الجناحِ ولسانُ حاله:

يا رب:

مَـن سارَ إليك وصَـل.. وإني داخلٌ بالذلّ عليك!

ومن دخلَ عليكَ بالفقر رجع بالغنى..

يا رب أنت موجدُ الحاجات مِـن العَـدم..

أنت أمانُ الخائفين

ومأوى الضّارعين..

هذه كلماتُ الفَقر؛ ولَـديك أسباب الغنى.

 الدّرب مَسدودٌ فهيّأَ لي المِعراج..

*أوّل خطوة في طريقك؛ أن تَقطع نَظرك عن كل ما سِـواهُ، فأنت لا شيء لولاه، فإن انقطع نظرك عما سواه هطلت على قلبك غيوث الخَيرات من سحائبِ الرّحمات..*

{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلى مِنْ خَيرٍ فَقِيرٌ}

هذه الكلمات تُصور لنا حيرة موسى فكأنه يقول يارب: تائه مَـن يُـرشِـدني!

 فهو خالي الوِفاض، ضعيف القُـوى..بعيدٌ عن الدار، مُنهك الجسد، يخشى الطلب..

 حاله وقد استدعى الغوث من السماء:

«كُـلّ الذي يرجونَ فضلك أُمطِروا

حاشاكَ أن يَـبقى هَشيمًا مَربعي»

كانَ لأولِ مرّة يسافرُ، وسفره ذلك سفرَ نزوح وهَرَب، وإذا كان مجرد السّفر شاقا على النفس فكيف بسفر النزوح.. وإذا كان سَفر النّزوح مُقلِقا فكيفَ بِمن هو يلتمّس مَأمنا.. فثلاثةُ هموم مجتمعات قاتلات ليس كَهَمّ واحد.

كان يتراكمُ عليه التّعب، وتتغشّاه الكُرَب لكن أمله في الله وغوثه..

ولي أمَلٌ بربِّي ليس يخبو

إذا جَـارَ الزَّمانُ أسىً يُجيرُ

خفي اللُّـطفِ لا تخْفي عليهِ

كَـوامِنُ أنفُسٍ كَـادت تـطِيرُ

فلا واللَّهِ ما ارتَـكمت همومٌ

على صــدرِ تَــولَّاهُ الــقَدِيْـرُ

ونَــادى بِـافْـتِـقَـارٍ: رَبّ إنِّي

لما أنْــزَلْــتَ من خَـيرٍ فَقِـيرُ

إن «السّفر قطعةٌ من العذاب» هذا إن كانَ على الراحلة فكيفَ بمن يسير على قدميهِ أياما ولياليَ متتابعات بلا زاد ولا أنيس.

كانَ حالهُ حالِك..

لكنّ حاء الحيرة التي أصابته أنزل الله فوقها نقطة..

كلّ ما يتمناهُ الغريب مأوى، وكل ما يطمح إليه النازح ملاذا.. وكل ما يرجوه الهارب لقمة طعام ولباس..

لكن من يتعلق بأبواب الكريم يمطر عليه غيمة من الجود فيضا، ويجعل قلبه أرضا..

تعالوا نشاهد ما الذي حدث بعد هذه المناجاة..

لقد باتَ موسى ليلته (عروسا) هانئا مع زوجةٍ تقرّ العَين، وآمنا من المطاردة في صحاري الخوف، وفي بيتٍ يأوي إليه ويتقلّب في جنباته، وفي يده وظيفه يزاول من خلالها عملا بعد أن وقّع عَقدا لعشرِ سنوات قادمة!!

اعمل ابتغاءَ وجهِ اللهِ ولا تَطمع في فضلِ أحدٍ فموسى عليه السلام سَقى للبنتين ابتغاء وجه ربهِ فأثمرَ عمله الجميل مباشرة في تلكَ الأسرة الطّيبة المُباركة فكان الشّكر والإيواء والاحتواء، والمقام الآمن، والضّيافة الكريمة، والزوجة الصالحة.

وتلاحظ أيضا في مشهد هذا النّازح أنّه صاحبُ مروءةٍ وعزةِ نفس، ولديه شهامةٌ ورجولةٌ فحينما رأى لؤم أولئك الرّعاة على المورد وهم يقومون بسقي أغنامهم دون إيثار أو تعاونٍ، ورأى الفتاتين تُبعدان عنهم الغنم وتذودانهِ تحرّكت شَهامته ونخوتُه وشعَر بحيائِهما، وصدقِ أخلاقهما، وطيبِ أصلهما فَقامَ هو بِسقي غنمهما دونَ الرّعاة.. فتولى الله جزاءه..

 إنّ موسى كان صاحبَ جودٍ وشهامة ومعروفٍ وصاحب المعروف لا يَسقط.. وإن سقطَ وجدَ متّكئا.

رغم تَعبهِ وشدّة نصبهِ إلّا أنّ مشهدَ الفتاتين أثّر فيهِ فتحاملَ على نفسهِ وسقى لهما فجاءه الفرجُ سريعا كفاء التّعقيب مباشرة {فجاءتهُ إحداهما} دون تأخّر.

اعمَل الخير للهِ وستجد النتيجة..

وجّه قلبكَ إليهِ وستَشعر بالأنس والطمأنينة والرضا..

حتى وأنت في قمةِ تَعبكَ لا تقف عن مشاريع الخيرِ والإحسانِ والعطاءِ لأن فيها نَجاتك، وهي سرّ توفيقكَ، وبها سَعادتكَ..

لا تَبخل على نفسكَ بالابتهالِ إلى ربّكَ فلا غنى لك عنهُ طرفةَ عينٍ..

اسأله فهو من يُعطي بلا حساب، ولو سأله كلّ من في السماوات والأرض فأعطى كُلاً حاجته ما أنقص ذلك شيئا من ملكه، وهو المُعطي فلا مُعطي سواه؛ {وآتـاكُم مِن كُـل مَـا سَألتُموه}

 وإذا شاء إغلاقَ الأبواب تكسّرت المفاتيحُ، وإذا انهمرَ غيثُ نِعَمِه أعطى بلا سببٍ، لا يُخَيِّب صاحبَ الّرَجَا؛ ولا يحرِم مَن على بابهِ الْتَجَا..

سلهُ أن يهَبكَ مِنْ نعمَائهِ مَا فِيهِ رِضَاه، وأن يحرُسكَ بعينهِ من كلّ ما تَخشاه..

قل:

يا رب قلبي تائِهٌ في اليمّ..

يَـا رب سائل مُنيبٌ، وأنت المعطي المُجيب…واقف على بابك أستجير لسان حالي ومقالي {رَبّ إنِّي

لمَا أنْــزَلْــتَ إليّ من خَـيرٍ فَقِـير}

يا أيّها النّازحُ من الحروبِ..

الهارِبُ من بطش المتآمرين.

الخائفُ من رصدِ الأعداء وطلبهم..

الباحثُ عن زوجةٍ وسكنٍ وعملٍ وأمان..

المفتّشُ عن قلبٍ يَحكي له قصص النّزوح..

الرّاجي ظِلا يستظلّ به من حرّ الهاجرةِ ولفح الأيام ومرارة الغربة قف على بابه بضراعة فَبهِ أقسم أنه لا يردّ أحدا..

 ما تذلّلَ أحد بين يديهِ صادقا إلا فَتح له خزائنَ العجائب، ولطائفَ المواهِب!

هو القديرُ وباعثُ التّدبيـر، والشدائد باعثاتُ اللطائف، والكُرَبُ تجلبُ القُرب، وقلوبُ الأخيار منبعُ الأسرار.

أنتَ بِحاجةٍ أن تبكي بين يديه، وتتقرّب إليه، وترجو ما لديه، وإذا أيقنتَ بخَلَفِه انهمرَ عليك وأتاك من حيثُ لا تحتِسب، وكلّـما كنتَ إليه أفزَع، كانَ الغوثُ إليك أسرع، وغَدَتِ الثقوب درُوبا، والرّزايا عَطايا، والمِحَن مِنَحا.

يُضيءُ المشرقيـنِ ومَغربَيْها..

أيعجزُ أن يُضيء فضاءَ قلبِكْ

د. عامر الخميسي

مدير مؤسسة فقه العصر للدراسات والتمكين العلمي دكتوراه في مقاصد الشريعة- ونائب عميد كلية الشريعة - وأستاذ القراءات العشر- والفقه الجنائي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى