بحوث ودراسات

د. عبد الآخر حماد يكتب: بل نحن الذين نتعلم منهم التوحيد والسنة

أرسل إليَّ بعض الإخوة بمقطعٍ لواحد ممن يدَّعون اتباع منهج السلف في بلادنا يُوجِّه فيه رسالةً لأهلنا في غزة الباسلة، مفادها الدعوة إلى ترك جهاد العدو الغاصب؛ متعللاً بأن الجهاد بتعليم الناس السنةَ والتوحيدَ أفضل من الجهاد بالسيف والسنان. ويوجه خطابه إلى البطل أبي عبيدة مطالباً إياه بالانشغال فقط بتعليم أهل غزة الكتاب والسنة، وتربيتهم على التوحيد، فيقول في نصائحه (المسمومة): (يا أبا عبيدة جاهد بالسنن فإنه أعظم من الجهاد بالسيوف.. يا أبا عبيدة إنْ كنتَ جاهلاً فتعلم وإن كنت عالماً وتخالف فارجع.. ربِّ أُمةّ غزة على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، علِّم أطفالها مَنْ ربك؟ وما دينك؟ ومَن نبيك؟ علِّم نساءها الحجاب الشرعي. علمهن كيف يعبدن الله ….) إلخ ما جاء في كلامه هداه الله، وأصلح حالنا وحاله. ورداً على ذلك الكلام أقول:

1-لا ينكر أحد أهمية إخلاص العبودية لله تعالى والبعد عن المعاصي في تحقيق النصر،ولسنا ننكر ضرورة التربية الإيمانية المبنية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

لكن ليس هناك دليل شرعي على أن ذلك شرط لا بد من تحققه قبل القيام بعبودية الجهاد، أو أنَّ على المسلمين تأخير مواجهة عدوهم إلى أن تتم تلك التربية المشار إليه. بل كلا الأمرين (التربية الإيمانية، وجهاد العدو) من الواجبات الشرعية، فإذا قصرنا في أحدهما لم يجُز التقصير في الآخر.

2-ونحن نعلم أنَّ من أصول أهل السنة والجماعة الجهاد مع كل بَرٍّ وفاجر من الأمراء، ومعنى ذلك أن الفاجر جهاده مشروع. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة). [مسلم (156) عن جابر بن عبد الله، وبنحوه أبو داود (2484) عن عمران بن حصين].

فأخبر أنه لا تزال طائفة من أمته تقاتل في سبيل الله، وأن ذلك لا ينقطع حتى آخر الزمان، ومعلوم أن الأمة لا يمكن أن تكون في كل عصورها على الاستقامة الكاملة، ولا شبه الكاملة، ولذا فقد استدل الخطابي بهذا الحديث على وجوب الجهاد مع أئمة الجور؛ فقال: (فيه بيان أن الجهاد لا ينقطع أبداً ،وإذا كان معقولاً أن الأئمة كلهم لا يتفق أن يكونوا عدلاً ،فقد دل هذا على أن جهاد الكفار مع أئمة الجور واجب كهُوَ مع أهل العدل، وأن جوْرهم لا يسقط طاعتهم في الجهاد وفيما أشبه ذلك من المعروف…) .[معالم السنن بهامش سنن أبي داورد (3/ 11)

3-ومن أجل ذلك رأينا شيخ الإسلام ابن تيمية يقاتل التتارَ تحت راية، مع ما كان في  من الظلم والبغي، بل مع مخالفته لهم في بعض أمور الاعتقاد، وكونهم سجنوه مراراً لأجل معتقده السلفي الصحيح. ومن ذلك تقديره رحمه الله لجهاد السلطان نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، وثناؤه عليهما، مع كونهما على المنهج الأشعري. فقد قال رحمه الله في مجموع الفتاوى (4/ 22): (وكذلك السلطان نور الدين محمود الذي كان بالشام عزَّ أهل الإسلام والسنة في زمنه، وذلَّ الكفار وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم). وقال وهو يتحدث عن مصر: (ثم فتحها ملوك السنة، مثل صلاح الدين، وظهرت فيها كلمة السنة المخالفة للرافضة). [مجموع الفتاوى: 3/ 281).

4-ثم إذا كان صاحب ذلك المقطع يدعو إلى اتباع السنن، أفليس من سنن الإسلام، بل من فرائضه العظام أن ندافع عن أرض المسلمين المغتصبة، وندفع عدوان الكافرين؟ وجهاد المسلمين اليوم في فلسطين هو جهاد دفع، لا جهاد طلب، وقد نص أهل العلم على أن جهاد الدفع لا يشترط له شرط بل يجب بما تيسر من الإمكانات المادية والمعنوية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعاً … فلا يُشترط له شرطٌ، بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء: أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر، وبين طلبه في بلاده). [الاختيارات الفقهية: ص: 309].

5-ثم إن ما نعرفه من حال أهلنا في غزة يرُدُّ كلامَ ذلك المدعي، فهو يدعو إلى تعليمهم التوحيد والكتاب والسنة، بينما العالم كله يشاهدهم على الشاشات ومن خلال مواقع الانترنت فيرى مدى القوة الإيمانية التي يتمتعون بها، وأحاديث البسطاء والعامة منهم تنضح بإيمانٍ عميق، ورضا بقضاء الله وقدره، واستعدادٍ للاستمرار في دفع ثمن الدفاع عن الأقصى وعن حرمات المسلمين. ولقد رأيت اليوم على شاشة قناة الجزيرة امرأة فلسطينية مكلومة تبكي وليدها ومُهجة قلبها كما قالت، ولكنها لم تنسَ في وسط حزنها وبكائها أن تطبق السنة النبوية، فسمعتها –والله –بإذني وهي تقول: “اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها”.

6-وإذا كان صاحب ذلك المقطع يطالب بتعليم نساء غزة الحجاب فإنا نقول له: إن العالم كله يراهُنَّ عبر الشاشات، وسطَ القصف والهول والدمار، فلا يراهن إلا متسترات لائذات بحجابهن الشرعي. ولا شك أن كل بلد فيه الصالحون وفيه الطالحون، لكني أشهد بما رأيته بعيني مِن شدة التزام أهل غزة –في الجملة- بالدين ومجافاتهم للبدع والضلالات.

فقد زرت غزة في عام 2012 ضمن وفدٍ من وزارة الأوقاف المصرية، فصليْتُ في مساجدها، والتقيت بأهلها، وسرْتُ في طرقاتها، وخطبتُ الجمعةَ في واحدٍ من أكبر مساجدها، فما وقعتْ عيني على قبرٍ يُتمسح به، ولا ضريح يُدعى صاحبُه من دون الله.

وما رأينا في شوارعها مثل هذا التبرج والفساد الذي نراه في بلادنا، وأذكر من طريف ما وقع خلال زيارتنا تلك، أن أحد إخواننا الفلسطينيين شكا لنا من بعض مظاهر الفساد التي بدأت تظهر في الأعراس والأفراح، فقال له واحد منا: هل تعني أن النساء يختلطْن بالرجال في مثل تلك الأفراح وهن متبرجات؟ فقال له: لا لم يصل الأمر إلى هذا الحد، ولكن يجتمع جماعات من الشباب وهم يستمعون إلى الأغاني فيصفقون ويتراقصون، وهنا قال له الأخ المصري مازحاً: (إن هذا الفرح بالنسبة لما نراه في مصر يعتبر فرحاً سلفياً).

7-ثم لهذا الذي يريد أن يعلِّم نساء غزةَ الحجاب والعبودية لله، أسوق ما تعلمتُه مِن خنساء فلسطين (أم نضال فرحات رحمها الله)، وذلك حين زرناها في بيتها في غزة، فقد حكتْ لنا كيف قدَّمتْ ثلاثةً من أبنائها شهداء في سبيل الله، وأنها هي التي كانت تحضهم وتدفعهم إلى الجهاد والاستشهاد. كما روت لنا قصة بطلٍ آخر من أبطال غزة هو الشهيد بإذن الله عماد عقل، الذي كان مطلوباً لقوات الاحتلال، فآوتْهُ في بيتها، كواحد من أبنائها، فكان ينطلق منه، ليقوم بعملياته ضد العدو، إلى أنْ وشى به أحد الخونة فجاء الصهاينة فحاصروا البيت، فأخذ يقاتلهم ويتخذ من سور البيت ساتراً له، فلما هددوا باقتحام البيت وقتْل كل من فيه إذا لم يُسلِّم نفسه، قفز من على ذلك السور، وأخذ يقاتلهم وجهاً لوجه إلى أن أكرمه الله بالشهادة.

فيا من تَبغي تعلُّمَ التوحيد والسنة: دونك هذه الأمثلة الرائدة فتعلم منها، فليس التوحيد مجرد كلام يقال ونصوصٍ تحفظ، بل هو مع ذلك ممارسة وعمل وجهاد.

عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

30/ 4/ 1445هـ- 14/ 11/ 2022م

د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى