مقالات

د. عبد الآخر حماد يكتب: من بعد ما أصابهم القرح

هذا الصمود البطولي الذي نراه من أهلنا وأحبابنا في الأرض المباركة، في مواجهة العدوان الغاشم، رغم ما يحيط بهم من ضيق الأحوال وشدة الأمر وقلة الإمكانات، يثبت لنا في يقين لا يخالطه الشك أنه لا يزال في الأمة بحمد الله تعالى من يسير على نهج رسول الله وصحبه الكرام في الصبر على تكاليف الجهاد ومغالبة أهل الباطل مهما كانت التحديات والتضحيات.

فإن مِن أحداث السيرة المطهرة أنه لما أصاب المسلمين يوم أُحد ما أصابهم، وانصرف المشركون راجعين إلى مكة، بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد عادوا مرة أخرى ليستأصلوا شأفة المسلمين، فنادى في الناس وندبهم إلى المسير لملاقاة المشركين، فاستجاب له المسلمون على ما بهم من الآلام والجراحات، وسار بهم حتى بلغ موضعاً يقال له “حمراء الأَسد” على بعد ثمانية أميال من المدينة، وقد ذكر أهل السير أن معبد بن أبي معبد الخزاعي قد خذَّل أبا سفيان وأخافه مما جمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع المشركون على أعاقبهم إلى مكة، وكفى الله المؤمنين القتال.

ولكن بقيت الحادثة كما خلدها القرآن الكريم في قوله تعالى:

(الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).

[آل عمران :172-174].

بقيت مظهراً من مظاهر كمال نبينا صلى الله عليه وسلم يتجلى في عدم رضوخه للواقع، ومغالبته للجراحات والآلام في شجاعة وصبر، مع يقين جازم بنصر الله عز وجل. كما كانت هذه الحادثة معْلَماً بارزاً من معالم تفرد ذلكم الجيل الفريد الذي لم تعرف البشرية له مثيلاً، حيث استجابوا لله ورسوله مع ما كان قد لحق بهم من الضر والأذى، وما أخافهم قولُ من قال: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)،

ليقينهم بقول الله عز وجل:

(إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

[آل عمران :175].

وقد كان من الممكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكتفي بالاستعداد الدفاعي في المدينة، ولكنه أبى إلا الخروج خلف جيش المشركين وكأني به -بأبي هو وأمي- يريد أن يعلم أصحابه أنهم حتى وهم في هذه الحالة من القرح الشديد والآلام المبرحة قادرون على الهجوم، وليس فقط على الدفاع والتصدي للمعتدين.

وما أشبه هذا بما يفعله إخواننا الآن؛ فإنهم لا يكتفون برد العدوان، بل يصرون على قصف العدو في عقر داره، مما جعل الملايين منهم يُهرعون إلى الملاجئ، مع دوي صفارات الإنذار التي تنطلق كلما أطلقت المقاومة صواريخها.

ولقد كان ذلك المعنى من أهم ما حرص على تأكيده الصديق أبو بكر رضي الله عنه، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك حين أصر على إنفاذ بعث أسامة بن زيد الذي كان قد جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته لقتال الروم، مع أن المسلمين قد كانوا في ذلك الوقت كما في سيرة ابن هشام (2/ 666) كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، لفقد نبيهم، وقلتهم وكثرة عدوهم، حيث ارتد مَن ارتد مِن العرب، ومنع الزكاة مَن منع، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية. وقد أشار عليه بعض الصحابة أن لا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم، لكنه رضي الله عنه أبى إلا أن ينفذه قائلاً: (والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأجهزن جيش أسامة)، فكان خروج الجيش ذلك الوقت كما يقول ابن كثير: (من أكبر المصالح والحالة تلك، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أُرعبوا منهم، وقالوا: ما خرج هؤلاء من قوم إلا وبهم منعة شديدة ). [البداية والنهاية: 6/308]

وكأني بهذا المعنى يتبدى أمامنا اليوم على يد أولئك الثلة من رجال الإسلام الذين أبَوْا إلا أن يثبتوا للدنيا بأسرها أن أمة الإسلام لن تعقم أبداً، وأنها لا بد من أن تنجب في كل حين مِن الراغبين في تكميل مهر الحور العين مَن يستطيع بحرصه على الشهادة وبأقل الإمكانات أن يجبر الأعداء على التراجع عن مخططاتهم، وأن يُحدث فيهم من النكاية والإيلام مثل ما يُحدثون في أهل الإسلام أو أكثر.

بقي هؤلاء المرابطون ليقولوا لكل صاحب شبهة: إن مشروعية الجهاد طلباً للشهادة قائمة، ولو كان المجاهد لا يطمع في أكثرَ من إحداث نكاية في العدو أو تجرئة لقلوب أهل الإيمان، وأن التغرير بالنفس في سبيل الله هو المقام الشريف الذي مدح الله به المؤمنين في قوله تعالى:

(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

[التوبة :111].

اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين.

أ.د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

د. عبد الآخر حماد

عضو رابطة علماء المسلمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights