د. فتحي أبو الورد يكتب: الشهيد القائد إسماعيل هنية.. وداعا
لما مات الشيخ المجاهد أحمد ياسين سال الدمع مدرارا حزنا على فقدان شيخ الدعوة والأب الروحي للحركة، وشفقة على مستقبلها من بعده، فقد كان الشيخ ملء السمع والبصر وخليقا لأن يجتمع عليه الفرقاء، ويستحي منه العقلاء. فقد كان نسيجا وحده. وتساءلت حين اصطفاه الله للشهادة من سيسد مسده؟ ومن سيملأ الفراغ الذي تركه؟ ومن سيفري فريه؟ ومن سيحظى بالاحترام والتقدير اللذين كان يحظى بهما بين الجميع الموافق والمخالف على السواء؟ بل من سيملأ العين بعده؟ وكانت بواعث هذا كله غلبة العاطفة التي طغت على ميزان العقل، والإعجاب بشخصيته الملهمة، وتأثيره الطاغي على من حوله، وإشعاعه المشرق الذي يبعث في النفس اليقين والطمأنينة، واصطفاء الله له ليكون قائدا وزعيما، ومؤثرا وهو على كرسي متحرك،
فلما وسد أمر الحركة إلى الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وقد كان له حضوره وشخصيته وتميزه في حياة الشيخ القعيد الذي كان مضرب المثل بصاحب الهمة العالية اطمأن قلبي وقلت لقد جعل الله فيه العوض وتدارك الحركة بلطفه، واصطفى لها أولياءه، واختار لها أصفياءه، فقد كان أسدا هصورا، وفارسا مغوارا، وسيفا من سيوف الإسلام، سله الله على أعداء دينه وقتلة أنبيائه.
وقلت الحمد لله: إنها دعوة ربانية وحركة مؤسسية لن تتأثر كثيرا في هيكلها وتنظيمها بغياب قائدها، وإن ترك فراغا كبيرا بعده ولن تتوقف عن سيرها ورسالتها بغيابه أو فقدانه ، وإن حرمت بركة حكمته ومشورته ورأيه.
ورأيت أن هذه سنة في الدعوات الربانية الصادقة القائمة على المؤسسية، أنها لا تغرب شمسها بغروب شمس قائدها، ولا ينطفئ سراجها، ولا يأفل نجمها بأفول زعيمها، كما انها امتداد صحيح لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد ربى النبي صحابته على الرسالة والدعوة، وإبان لهم المنهج، وأوضح لهم معالم الطريق، وما بقي عليهم إلا أن يقتفوا اثره، ويسيروا على نهجه، ويختطوا ذات الطريق، ويسيروا على ما سار عليه. ولذلك عندما صرخ شيطان في غزوة احد بأن محمدا قد مات. قال بعض الصحابة: إذا كان محمد قد مات فلم نقاتل؟ فصحح لهم بعضهم الآخر وقال: إذا كان محمد قد مات فلم نعيش؟ قوموا فمونوا على ما مات عليه.
فقاتل القوم حتى انقلبت الكفة، ورد الله كيد المشركين، ونجى الله نبيه، وكان درسا عمليا تعلمه الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن الدعوة والرسالة لن تتوقف بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك نزل قوله تعالى «وما محمد إلا رسول. قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجري الله الشاكرين». وإن العاملين للإسلام لا بد أن يسلكوا ذات السبيل، ويكملوا المسيرة، ويبلغوا الرسالة، ويقوموا بواجب الدعوة بين الناس كما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى امتنعت بعض القبائل عن دفع الزكاة، وكانوا يظنون أنهم يؤدونها لشخص النبي، لا على أنها فريضة محكمة في دين الله.. فلما كان ذلك اعلن الخليفة الراشد أبو بكر الحرب عليهم. وقال قولته الشهيرة: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه. وقاتلهم حتى عادوا لما كانوا عليه. وقال: أينقص الدين وأنا حي. وكأنه يقول: ماذا تقول الأجيال المسلمة من بعدي: إسلام فيه زكاة في عهد رسول الله وإسلام ليس فيه زكاة في عهد أبي بكر.؟
وعلى هذا الفهم واصل الصحابة المسير، وبلغوا دعوة الله حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم مات والإسلام محصور داخل الجزيرة العربية، واستكمل الصحابة نشر الرسالة وإبلاغ الدعوة والقيام بأمر الإسلام حتى انتشر في العالمين.
ثم ما لبث سريعا أن اصطفى الله الرنتيسي للشهادة، وارتقى إلى العلياء، وهوى النجم الذي شد إليه القلوب والأنظار، وأفل القمر الذي ملأ الأعين والأبصار، وترجل الفارس عن صهوة جواده.
وعاودتني نفس المشاعر وذات الشفقة، من سيملأ الفراغ بعده حتى وإن كان يحمل نفس الفكرة وينتهج نفس النهج ويختط ذات الطريق؟ ومن سيكون في شجاعته وقوته وتأثيره؛ لأني مؤمن بأن القائد يقع عليه العبء الأكبر في تسديد مسيرة الحركة، والقدرة على إدارتها، والسير بها بحكمة، وهي تمخر عباب البحار، ويلتمس لها النجاة والعافية وهي تصارع الأمواج الهادرة والرياح الهائجة.
ويناط به خلق الفرص وتخطي العقبات وتجاوز التحديات، والحفاظ على وحدتها ونسيجها، وتماسكها في وجه العدو، وتصويب وجهتها نحو عدوها الحقيقي، والنأي بها عن الصراعات الجانبية والمعارك الفرعية، التي تستنفذ طاقتها، وتشتت قوتها، وتبعثر شملها، وتعرقل مسيرتها وتعطل طاقاتها.
ثم ما لبث أن سطع نجم جديد في سماء الحركة تولى قيادتها، وأخد بزمامها، وسرعان ما ابهر الجميع بحضوره وذكائه وحكمته، وقدرته على التجميع، وبراعته في التأثير، ودهائه في الخروج من المطبات والتخلص من الورطات. مع فهم عميق لدعوته وبصيرة بزمانه، ونظرة ثاقبة تعرف عدوه، وقدرة فائقة على كسب الأنصار، وتحييد الخصوم والناقمين، وطريقة ناجعة في التعامل مع الموافق والمخالف مما أكسبه قبولا جماهيريا، وشبكة كبيرة من العلاقات على مختلف المستويات الرسمية والشعبية.. إنه أبو الوليد خالد مشعل.. فقد اوتي لسانا فصيحا، وحظي ببلاغة وبيان في التعبير عما يريد إيصاله، وعذوبة في إلقائه ومنطقه، في استرسال أخاذ، حتى إن سامعه ومتابعه لا يمل وإن طال حديثه، كما انه صاحب رأي ووجهة نظر يبديها في تواضع وتجرد. وهو فوق ذلك وقبله وبعده فارس في الميدان واسد في الركبان.
وقلت الحمد لله، إن هذه دعوة الله، وهو أغير عليها منا، يختار لها من يشاء، ويصطفى لها من يريد، ويغرس لها بيديه، ويحرسها بعينه التي لا تنام.
وحضرني في ذلك قول السموأل:
إِذا سَيِّدٌ مِنّا خَلا قامَ سَيِّدٌ *** قَؤُولٌ لِما قالَ الكِرامُ فَعُولُ
وقد جعل الله تعالى في قيادة أبي الوليد العوض والخير والبركة. وقد صار ملء السمع والبصر، تباهي به الحركة، وتفخر به الدعوة، وتتعطر به السيرة، وتعتز به المسيرة، بعد أن أبلى بلاء حسنا.
ثم شاءت الأقدار أن يتولى قيادة الحركة الأستاذ إسماعيل هنية، وقد استقبلته الأنظار والعقول في بادئ الأمر على أنه رجل طيب، وشيخ صالح وإمام، يصلح للخطابة والإمامة في المساجد. فقد كان رحمه الله قارئا وخطيبا مفوها. وهذا ما جعل المتابعين والمهتمين يظنون به كذلك. ثم سرعان ما كشفت الأيام والأحداث والمواقف عن قائد متفرد، له سمته ونسيجه وتميزه. فقد جمع بين طيب القلب والتواضع الجم والحياء الشديد ولين الجانب مع إخوانه وبين القوة والصلابة والشدة والبأس على الأعداء.. وإن شئت أن تلقبه، فليس ببعيد عنه أن تلقبه بالشيخ القائد.
وها نحن اليوم نودعه شهيدا إلى مثواه الأخير على أمل اللقاء في جنات النعيم، وستكون دماؤه الزكية لعنة على قاتله، وفارق الزمن بين رحيل القاتل والمقتول ساعات لن تطول، وعند الله تجتمع الخصوم.
وأيقنت أن هذه دعوة ربانية مؤسسية، القيادة فيها جماعية وإن كان الذي يبرز هو راس المؤسسة، فيراه الرائي كأنه القمر ومن حوله نجوم، وما درى أنهم كلهم أقمار. بيد ان لكل قمر وقته وزمانه ودورته. فإذا غاب او غيب قائد برز قائد جديد يمتلك من القدرات والمؤهلات ما لا يقل عن سابقه، وإن تميز كل واحد منهم عن أخيه في جانب من الجوانب.
وهم جميعا يلتفون حول قيادتهم، متناسين ذواتهم، يجمعهم هدف واحد، وتجمعهم رسالة واحدة ورؤية مشتركة، وتجمعهم الآمال والآلام المشتركة. وكل منهم له فضله وسبقه وقدره وتميزه.. يضع كل منهم قدراته ومواهبه ومؤهلاته وكفاءته وما يحسن ويجيد بين يدي قائده؛ ليوجهه ويوظف طاقته ويستثمر كفاءته.
ويذكرني حالهم بحال أبي بكر مع عمر في سقيفة بني ساعدة، وأبو بكر يقول لعمر: ابسط يدك أبايعك يا عمر.. فيقول عمر لأبي بكر: بل ابسط يدك لأبايعك يا أبا بكر، انت افضل مني. فيقول أبو بكر: أنت أقوى مني. فيقول عمر: قوتي مع فضلك يا أبا بكر.
إن هذه المؤسسية في الدعوات الصادقة هي الوسيلة الوحيدة والطريقة السديدة لاستمرار مسيرة الدعوات وعدم توقفها وتجنب تآكلها وضمان لها من الانحراف وعدم تمحورها حول زعامات فارغة تسعى لصناعة أمجاد شخصية أو تحقيق أهداف رخيصة.
ورغم الحزن والألم لفراق واستشهاد القائد هنية في هذه المرحلة الصعبة من عمر القضية إلا أنني على يقين أن الله تعالى سيختار لهذه الحركة المجاهدة من يخلفه، ويصطفى لها من يقودها، ويكون أهلا بإذن الله ليمضي بها نحو النصر والعزة ضمن ظروف الزمان والمكان والتحديات والصعاب.
وبالرغم من تكاثر الأحزان وتكالب الأعداء وشدة البلاء وصعوبة المرحلة إلا اننا على يقين بان اشد ساعات الليل. ظلاما هي الساعة التي تسبق انبثاق الفجر وان مع العسر يسرا وإن النصر بيد الله وان الفرج قريب..
سَتمطر الأرضُ يَوماً رغم شِحّتِها
ومِن بطونِ المآسي يُولَدُ الأملُ!
رحم الله الشهيد إسماعيل هنية أبا العبد وألحقنا به في دار الكرامة ومستقر الرحمة في جنات النعيم على سرر متقابلين