أقلام حرة

د. محمد المرشدي يكتب: طوفان الأقصى.. الناجون والغرقى

لا أدري إن كان قد دار بخلد المجاهدين بغزة، وهم ينحتون هذا الاسم المجازي ذو الدلالة العميقة «طوفان الأقصى» كل هذا الكم من الآثار التي سيخلفها هذا الطوفان في الحقيقة المُشاهدة. فلم تكن أحداث هذه الغزوة مجرد معركة عسكرية كسابقيها بل كانت طوفاناً على الحقيقة غرق فيه أقوامٌ و نجا منه آخرون..

غرق في الطوفان كل مَن لم يكتمل إيمانه فَشَكَّ في عدالة الله في الأرض، بعدما أذهلته صور الجرحى والقتلى، وأشلاء الأطفال الممزقة، فراح يهذي أين الله من هذا الظلم؟ ولماذا لا يدافع عن عباده المؤمنين؟ وتداعت عليه الوساوس تترا كالطوفان، حتى أنسته ركائز عقيدته وأركان إيمانه، ونَسِيَ اليوم الآخر، وأن الدنيا ليست دار جزاء، وليست دار العدل، فالعدل المطلق والجزاء الأوفى سيكونان في الآخرة، في الجنّة والنّار، وإلاّ فَلِمَ خَلَق الله الجنّة والنّار، ولِمَ أخَّر الله القيامة، ولِمَ كان الميزان والحِساب!

غرق في الطوفان كل من لم يتحصن بثوابت دينه، فأغرقته شبهات المرجفين، وراح كالببغاء يردد دون عقل وما ذنب الآلاف من الأطفال والنساء أن يموتوا في حرب لم يُنْشِئوها، وكأنها لو لم تقم هذه الحرب لامتدت أعمارهم سنيناً، ولتناكحوا وتناسلوا وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا، وكأنهم لم يقرأوا قول الله {ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا}، وكأن قول الله عزّ وجلّ {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} لم يَمُر عليهم من قبل! ونَسِيَ مع مَنْ نَسى أنّه لَن تموتَ نفسٌ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها!

غَرِق في الطوفان كل مَنْ ظَنَّ أنه لم يُمْتَحن في هذه المِحنة لأنه ليس من أهل غَزَّة،و غَرَّه أنه كان من المُصَلِّين والصائمين، إلاَّ أنه سقط في محرقتها على الرغم من أنه قد فصلته عن ملاحم غزة آلاف الكيلومترات، وما ذلك إلاَّ لفساد اعتقاده حين وافق أهل الكفر على كفرهم وأهل الظلم على ظلمهم، وإن لم يشاركهم ببدنه وماله أفعالهم، فكان خَلَفَاً لامرأة لوط التي هلكت مع قومها، وإن لم تشاركهم صنيعهم بإتيان الفاحشة، هي فقط انحازت لهم عقدياً وأقَرَّت صنيعهم، وإن لم تفعله بنفسها، فأصابها ما أصابهم من الوعيد وكانت من الغابرين، ولم يَشْفَع لها أنها كانت تحت نَبِيّ الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام!

غرق في الطوفان قومٌ مِنْ جِلْدَتِنا، يَتَكَلَّمُونَ بألسنتِنا، أسماءهم كأسمائنا، ويعيشون بين ظهرانينا، ويَدَّعونَ نسباً لأُمّة محمد صلى الله عليه وسلّم، ولكنهم ليس فقط لم ينكروا المنكر ولم يأمروا بالمعروف، بل اِدَّعوا زوراً العَدْلَ -وليتهم كانوا من أهله- فساووا بين الظالم والمظلوم، وطلبوا من الطرفين ضبط النفس! فهم ليسوا فقط قد انحازوا للظالم ووقفوا معه ضد المظلوم، بل كانوا هم الظالمين، و«الظُلم ظلمات يوم القيامة» رواه مُسلم..

وكأنهم لم يقرأوا يوماً قول ربنا {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وكأنهم لم يسمعوا قول رسولنا صلى الله عليه وسلم «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى» وقوله صلى الله عليه وسلم «المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلِمُه ولا يُسلِمُه.. الحديث» رواهما البخاري ومسلم..

غرق في الطوفان كل المرجفين من الطابور الخامس الذين لم يتوقفوا يوماً عن تَخْذيل المسلمين، منذ أن قالوا وماذا تصنع الحجارة أمام آلة الحرب اليهودية، فلما أصبحت صواريخ، قالوا وما جدوى هذه الألعاب النارية، وها نحن اليوم نرى صواريخ القسام وهي تَدُك تل أبيب، وصواريخ الياسين وهي تُدَمِّر الميركافا وتنسف هذه الخرافات المُثَبِّطة للأُمة، وها هي الشاشات تدحض على الهواء مباشرة افتراءاتهم القديمة الجديدة مِنْ أن الفلسطينيين باعوا أرضهم وفَروا من اليهود ولم يدافعوا عن أرضهم، فَصَلِّي اللهم وسَلِّم و بارِك على رسولك الكريم الذي أخبرنا قبل مئات السنين بأنّه «لا يَضٌرُّهم من خذلهم»..

غرق في الطوفان كثير من سَحَرَة الإعلام، ليس فقط في بلادنا، بل في كل أرجاء المعمورة، حيث جَرَف الطوفان أكاذيبهم، فلم تصمد أمام بشاعة المشهد الدموي الذي يراه الناس يومياً بأم أعينهم على الشاشات وفي السوشيال ميديا، فتحررت الشعوب من سَطْوَة أكاذيبهم، وخرجت الملايين من أحرار العالم في الطرقات رافضين هذا الظُلْم وهذا الجور، وكسروا لأول مرة في التاريخ الحديث حاجز الصمت الذي فرضته حكومات الدولة القومية الحديثة على شعوبها!

غرق في الطوفان جيوش مُجَيَّشة، وعتاد وأسلحة تفانت أعمار ومُقدرات شعوبنا الإسلامية والعربية في تكديسها، فلما آن الأوان خرجت هذه الجيوش الكرتونية في استعراضات مسرحية في طرقات البلاد، لا في ميادين الحرب والملاحم على الحدود، وأدارت فوهة مدافعها لشعوبها، بعد أنْ سَلِمَ من سلاحها أعدائها!

غرق في الطوفان نُخَبٌ استرعاها الله شباب هذه الأمة، فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وأَلْهوهم عن رسالتهم في الحياة بالترفيه والمجون بدعوى التنوير، وسَلَخوهم عن دينهم وعن أُمَّتهم، فَلَمّا جَدَّ الجد {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ}، وإذا بنا نجد أنفسنا أمام أجيالٍ من المسوخ لا يعرفون معروفاً و لا يُنكرون مُنكراً إلاَّ ما أُشْرِب من هواهم…

غرق في الطوفان شباب تراقص حتى الصباح في مهرجانات الترفيه طوال نفس الليلة التي بات فيها أخوهم في غزة ينبش الركام بيديه العاريتين النازفتين تحت القصف باحثاً عن جثث أبنائه الأربعة، حتى خارت قواه، ومضى اليوم واليومين وأشلاء عائلته تتعفن تحت الركام في مشهد عبثي لن يغيب عن ذاكرة الأمة مهما مرت السنين!

غرق في الطوفان مشاهير ورموز اجتماعية، تَصَدَّرت في زمن التفاهة، وغرق معها ألقاب ومسميات جوفاء، كالبطل، والنَجم، وفخر العرب، والعلاّمة، وخادم الحرمين، وشيخ الإسلام، و…، و…….

وغرقت أيضاً في طوفان الأقصى كل دعاوى الإنسانية الزائفة، وحقوق الإنسان المزعومة ومعاهدات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو المشبوهة، ومحاولات التطبيع المشئومة، والسُلْطة الفلسطينية العميلة، لقد جَرَف الطوفان كل هذه النفايات إلى مزبلة التاريخ..

وغرق في الطوفان شيوخ السلطان الذين جرفهم حب الدنيا وكراهية الموت، فكانوا غُثاءً كَغُثاء السيل، ولم ينفعهم عِلْمهم، ولا تَصْدير الناس لهم، {ورَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} فكان عِلْمهم حُجَّة عليهم، وبَدَلاً من أن يكونوا هم ضمير هذه الأُمة، وقلبها النابض وطليعة الأمة لكل عمل إيجابي (ينصر إخوانهم المحاصرين في غَزّة)، إذا بهم يتفننون في تمزيقها، فيصرفون الشعوب عن مُقاطعة منتجات الشركات الغربية الداعمة لإسرائيل، بِدَعوى وجوب إذن وَلِي الأمر أولاً لإنفاذ هذه المقاطعة! ولا يخفى أن المقاطعة الاقتصادية وهي وإن كانت فعل تَرْكِي وليست عملاً في الحقيقة، إلاَّ أنها تُمَثِّل العمل الإيجابي الوحيد الذي تستطيعه غالب الشعوب المسلمة ولا يخضع لهيمنة حكوماتهم، بعد أن أغْلِقت هذه الحكومات في وجههم كل الحدود لِمَنعهم من نُصرة إخوانهم في غزة، ولا نَدري أين وجدوا في كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسَلَّم هذا الهذيان وهذا البُهتان، وهم يرون بأم أعينهم أنَّ قصور و جواري حُكَّامهم وملوكهم، أعَزَّ عليهم من مسجدهم الأقصى، وأنَّ ولاة أمورهم لا يأمرون بمعروف ولا يُنكرون منكراً، بل ويوالون أعداء الأُمّة ويُعادون علمائها ومُصلحيها ويَحبِسونهم في السجون! وحَسبك أنه لمّا قاطع المصريون المنتجات الفرنسية بعد الرسوم المسيئة لِرَسولنا الأكرم صلى الله عليه وسَلّم، سارع حاكمهم السيسي (وحذا حذوه بن سلمان وابن زايد) بعقد صفقات حكومية مع الحكومة الفرنسية (التي تدعم هذا الصنيع المشين) لِيُعَوِّضوا فرنسا عن الخسائر الناجمة عن مقاطعة الشعوب المسلمة للمنتجات الفرنسية! فهل مثل هؤلاء يُنتَظر أمرهم وإذنهم!؟ لقد تَطَلَّعت الشعوب ومازالت تنتظر من شيوخ الحرمين وشيخ الأزهر أن يثوبوا إلى رُشدهم ويغادروا حظيرة الملوك والحكَّام ويلحقوا بركب العلماء الذين حفروا أسمائهم في سجل الخالدين في تاريخ المسلمين كالعِزّ بن عبد السلام وابن تيمية ولا يكونوا من ضحايا هذا الطوفان..

وغرق في الطوفان صِنْفٌ آخر من الشيوخ، قَلَّ فِقْههم، وعَجَزت أفهامهم عن إدراك حقيقة هذا الدين الحنيف، الذي أعزَّ الله به هذه الأُمة، واقتفوا أثر هذا الواعظ البليغ البليد الذي كان يقول للشعب الجزائري حال ثورته على المُحتل الفرنسي البغيض، ماذا لو ضربنا الحجر بالبيضة، فأُجيب تنكسر البيضة، فقال: وماذا لو ضربنا البيضة بالحجر، فأُجيب تَنْسَحِقَ البيضة، فقال: فهذا شأن الشعب الجزائري (البيضة) مع الجيش الفرنسي (الحجر)، فإنّه لا يَسَعنا مع هذا الحال من الضعف إلاَّ الدعاء! وها هي الأيام قد أنبأتنا عن ضحالة عِلْم هذا الدَعِيّ بِسُنن الله في خلقه، فمازالت الثورة تتقد وتنتشر حتى طَرَد الجزائريون المحتل الفرنسي البغيض! وما أشبه اليوم بالبارحة فقد خرجَ علينا نفس هذا الصِنف من الشيوخ المشئومين الذين يُخَدِّرون الشعوب بفتاواهم المغلوطة فراحوا يُثَبِطون الأمة عن العمل والأخذ بالأسباب، بدعوى العجز الدائم، ويخرجون في الفضائيات وقنوات السوشيال ميديا، ليقولوا للناس لا يسعنا الآن مع هذا التفاوت الكبير في موازين القوى إلاَّ الدعاء، وبدلاً من أن يُحَفِّزوا الأُمة للخروج من هذا الوضع المُزري الذي أصابها، وينكرون هذا المُنْكر الذي لا يختلف عليه إثنين من المسلمين فضلاً عن العلماء والوُعِّاظ منهم ألا وهو حِصار حكوماتهم وجيوشهم للمسلمين في غزة، وبدلاً من أمرهم بالمعروف الذي لا يختلف عليه إثنين من المسلمين أيضاً، ألا وهو وجوب نجدة أهل غزة خصوصاً وأهل فلسطين عموماً على كل دول وشعوب الطوق حول الكيان المُحتل، إذا بهم يُغَذّون في شعوبهم حالة الهروب الدائم من المسئولية، ويجعلون العامة في حالة من الرضا النفسي الكاذب، لأنهم فقط يدعون لهم في الصلوات والخلوات! فأين هذا من قول رسولنا صلى الله عليه و سَلَّم في صحيح الترمذي «والَّذي نَفسي بيدِهِ لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكُم عقابًا منهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» رواه الترمذي و حَسَّنه الألباني.. وفي الحديث إجابة ظاهرة البيان لمن يسأل لماذا ندعو على اليهود منذ أكثر من سبعين عاماً ولا يُستجاب لنا!

أيها الفضلاء، إنَّ الدعاء إن لم يصاحبه عمل كان كالحشيش المُخَدِّر للشعوب، وآيات القرآن تنضح بهذه الحقيقة مراراً وتِكراراً {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فما كان دعاؤهم إلاَّ بعد أن أخذوا بالأسباب وبرزوا للقتال! وهو نفس المشهد يتكرر في غزوة بدر من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم في ساحة المعركة، والذي نزل فيه قُرآن يُتلى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}..

وكما غرق في الطوفان أقوامٌ فقد نجا منه آخرون..

نجا من الطوفان كثير من المجهولين الذين أفنوا أعمارهم في طاعة ربهم، وقَدَّموا أنفسهم فداءً لإيمانهم بربهم، وحافظوا على جذوة الجهاد مُتَّقِدَة، ولا يَضُرُّهم أن الناس لا تعرفهم، فالله يعرفهم، وتَأْبَهوا تحتفي بهم ملائكة السماء وإن تجاهلهم كل أهل الأرض، وقد صَعَدَت أرواحهم إلى بارئها في مواكب تحفها الملائكة، كُلَّما تجاوزوا سماءً، سأل أهل السماء التي تليها من هؤلاء الشهداء الذين تعطرت السماوات بطيبهم!

ونجا من الطوفان كل من لم يرتجف قلبه لِتَهَدُّمِ بيته، ولا لضياع مصدر رزقه، ولا لِفَقْدِ وَلده وسَنَده، فهو يتكئ في هذه الدنيا على رب يكفيه ويؤويه، ولم يتعلق يوماً بغيره، فكان خير خلف لخير سلف، وكأننا أمام جيل يحاكي نماذج الصحابة الأولين، جيلٌ فيه ألف خنساء، وألف أسماء، وألف حمزة وألف خالد، جيلٌ قُرآنيّ تم تنشِئته على تطبيق القرآن وليس حفظه، جيل لم يُهمل الأم والأب ولا الأبناء والجيران في التنشئة الإيمانية، فَصَنَع حاضنة شعبية يؤمنون بما يؤمن به طليعتهم من المجاهدين، جيل خالف كل حسابات الدنيا، وتَعَلَّق بالآخرة، فكان هذا الصمود الأسطوري من هذه القِلّة المعدودة أمام آلة الحرب الجهنمية الكونية، وحَسْبهم أنهم قَدَّموا لنا الشكل العملي في الإعداد الإيماني للأُمَّة بعدما كان الناس قد يَئِسوا أن يُدْرِكوا هذه المعاني الإيمانية وَسْطَ هذه المجتمعات الغارقة في المادية..

ونجا من الطوفان أناس كُنّا نعدهم من التافهين، إلاَّ أنهم استحوا من الله أن يتمادوا في تفاهاتهم وسط هذا الكم من الدماء والأشلاء، فَغَسَل الطوفان خطاياهم وأزال غفلتهم، فرجعوا إلى ربهم تائبين منيبين..

ونجا من الطوفان حتى غير المؤمنين بالله، ممن بقى في نفوسهم بقية من أخلاق الأولين، ممن رَقَّت قلوبهم لمآسي النساء والأطفال، ومشاهد البَطش والتنكيل، فخرجوا وُحداناً وجماعات في طرقات أوروبا وأمريكا يستنكرون خِسَّة حُكَّامهم، ويعلنون براءتهم من مناصرة الظُلْم وأهله..

إخوتاه.. إنَّ معركة طوفان الأقصى الدائرة في غزة اليوم، لم تكن أبداً معركة مليونين من المسلمين حُبِسوا خلف أسلاكها الشائكة، وأسوارها الخانقة، ولكنها كانت معركة مليارين من المسلمين أسلموا إخوانهم في غَزَّة لعدوهم، بالخذلان تارة، وبالعداوة السافرة تارة! وهي في الحقيقة امتحان من أكبر امتحانات الإيمان التي امتحن الله بها المسلمين (كل المسلمين) في هذا الزمان، رَسَبَ فيه مَنْ رَسَب، ونَجَحَ فيه مَن نجح، وإن شِئت التدقيق، لقد امتحن اللهُ الخلقَ، كل الخلق في طوفان الأقصى، فكان منهم الناجون، ومنهم الغرقى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى