د. محمد عياش الكبيسي يكتب: منهجية الحوار مع الحركات الباطنية
تجتمع الحركات الباطنية على أصول معروفة منذ تأسيسها وإلى اليوم، مهما اختلفت أسماؤها وأشكالها، ومن هذه الأصول:
١- إبطال التوحيد الذي هو أساس الإيمان باختراع آلهة باطنية (تخضع لها كل ذرات الكون) بحيث يجعلون الناس يخافون من هذه الآلهة أكثر من خوفهم من الله تعالى، ويذكرونها أكثر من ذكرهم لله، وهكذا، ثم تنسج آلاف القصص والحكايات التي تقنع البسطاء بأن هؤلاء البشر (الآلهة) لا ينبغي النظر إليهم بظواهرهم البشرية المحسوسة، فإذا علمت أن أحدهم مثلا مرض أو جاع أو غلبه أعداؤه فقتلوه، فهذا كله (الظاهر) أما الحقيقة فإنهم (لا يمرضون ولا يموتون إلا بعلمهم وإرادتهم)!
٢- إبطال النبوّة والوحي الذي هو أساس الإسلام بادّعاء استمرار الوحي بعد النبوّة، فهناك بزعمهم بشر يعلمون الغيب بتعليم الله المباشر لهم، بل ولهم الحق في تغيير الأحكام التي جاء بها النبيّ عليه الصلاة والسلام واختراع شعائر وطقوس وعبادات جديدة، أما القرآن فمنهم من يصرّح ببطلانه وتحريفه، ومنهم من يكتفي بتأويله تأويلا باطنيا لا تتسع له اللغة ولا العقل.
ومع خطورة هذه الأصول وما ينبني عليها فقد تمرّس الباطنيّون على طريقة في النقاش تجعل النتيجة لصالحهم مهما كانت، كيف؟
١- مكان أن يكون النقاش حول معنى الإيمان بالله وتوحيده يجرّون النقاش إلى دائرة الخلاف حول بعض الشخصيات التاريخيّة، فيكثرون من الهجوم على بعض الأشخاص لإثارة ردود فعل متوقّعة، فتتحوّل صورة الخلاف من خلاف حول (الله) إلى خلاف حول (شخص) ما، وهذا بحد ذاته مكسب لهم، ولأن هذا الشخص بشر ومن طبع البشر النقص والخطأ، فإن سلسلة النقاش ستطول وستبتعد كثيرا عن أساس المشكلة.
٢- مكان أن يكون النقاش حول (الوحي) الذي هو مصدر التلقي الوحيد لعقيدة الإسلام وشريعته (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) يتحوّل النقاش حول الأحداث والروايات (التاريخية)، ولأن هذه الروايات لم يأت بها الوحي المعصوم فهي محل خلاف ونزاع لا ينتهي، وهذا هو المقصود؛ إشغال الناس عن الخلاف في أصل الإسلام ومصدره الأساس إلى متاهة تاريخية لم تحسم ولن تحسم.
وإذا كان التوحيد والنبوّة هما أساس الإيمان والإسلام فقد جاء القرآن الكريم بمئات الآيات المحكمات لإثباتهما وتوضيحهما حتى لا يبقى عذر لمعتذر، وفي الوقت ذاته حذّرنا القرآن من اتباع (المتشابهات) لأنها تبعدنا عن المحكمات، ولأن المتشابهات بطبيعتها تثير الخلاف والفتنة دون جدوى ولا نتيجة محسومة، فانظر كيف يصف القرآن هؤلاء الذين يثيرون المتشابهات ويتغافلون عن المحكمات (ابتغاء الفتنة) وأي فتنة أكبر من هذه الفتنة؟!
أذكر في تسعينات القرن الماضي زارنا في الفلوجة رجلان قالا: إنهما يريدان النقاش مع علماء الفلوجة: وكان معي في استقبالهما عدد من الإخوة بينهم أخي الشيخ الشهيد إحسان الدوري -رحمه الله- فأحال الكلام إليّ، فرحبت بهما وقلت: أنتم الضيوف وأنتم المبادرون فنسمع منكم، فتكلم أحدهما بكلام طويل حول (الأحداث التاريخية المعروفة) فقلت: واضح أن الأولويّة عندكم للتاريخ وما جرى فيه من أحداث ومآسٍ، أما أولويّاتنا نحن فثلاثة لا غير: (الله) ثم (الرسول) ثم (القرآن) فأرى أن نبدأ بها، فإن اتفقنا عليها سامحناكم فيما عداها! فكان يوما مشهودا، حيث انكشف للحضور أن منهجية (النقاش التاريخي) بديلا عن (النقاش العقدي) منهجية معتمدة عندهم، ويؤسفني أن بعض إخواني لا زال غير قادر على فهم أبعاد هذه المنهجية الخطيرة.
مع هذا فإني لا أمانع من طرح الموضوعات التاريخية لكن ينبغي أن نلاحظ الآتي:
١- أن البحث التاريخي مطلوب لفهم أحداثه وتحليلها وأخذ العبرة منها، ولكنها ليست هي أصل الخلاف بيننا وبين هذه الحركات خاصة أولئك الذين يصرّحون بتحريف القرآن وباستمرار الوحي بعد النبيّ الخاتم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.
٢- أن البحث التاريخي ينبغي أن يبقى في إطار (التاريخ) ولا يصح أن يتحول إلى الإطار (العقدي)، أما الموقف من الصحابة -رضي الله عنهم- فالأصل فيه أنه موضوع عقدي لمكانة الصحابة الصريحة في القرآن الكريم: المهاجرين والأنصار
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
[التوبة:100] فهذه عقيدة محكمة، أما تفاصيل الأحداث التاريخية التي حصلت لهم فالحكم فيها ليس من المحكمات ولسنا مكلفين بأن نقضي بينهم فيما حصل بينهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
هذه ومضة سريعة قد تنفع إخواني المتصدّين لهذا الشأن والله ينفع بهم ويتقبّل منا ومنهم.