بحوث ودراسات

د. وليد عبد الحي يكتب: السعودية بين طوفان الاقصى وغواية التطبيع

من العسير عند تحليل السلوك الخارجي لدولة معينة، تجاوز بنيتها القائمة وشبكة علاقاتها الاقليمية والدولية، ثم طبيعة رؤية صانع القرار لملابسات الراهن القائم، وفي تقديري أن الفارق الرئيسي بين الدول هو «عملية صنع القرار السياسي»، فهناك دول تشارك في صنع قرارها أغلب السلطات والرأي العام المحلي بقواه العامة ونخبه، أما في دول أخرى كالسعودية، فإن القرار صناعةً واتخاذاً محصور بيد عدد محدود جدا من الأفراد ، وهو ما يستلزم توظيف علم النفس السياسي أكثر من توظيف علم الاجتماع السياسي أو نظرية المباريات في صنع القرار.

وعند التطرق إلى السياسة الخارجية السعودية بخاصة في موضوع تداعيات طوفان الأقصى لا بد من:

 فحص الصحة السياسية للدولة:

ويكفي في هذا المجال التوقف عند المؤشرات التالية:

أ‌- معدل الديمقراطية في السعودية هو 2.08 (من عشرة) ،وهو ما يجعل ترتيبها عالميا هو 150 من بين 167 دولة، لكن السعودية بهذا المعدل المتدني لا تبدو شاذة عن إقليمها فقط بل وشاذة عن المجتمع الدولي خارج هذا الإقليم، إذ أن معدل الديمقراطية في العالم خارج الوطن العربي هو 5.6 بينما في الدول العربية 3.23، وهو ما يعني أن السعودية في هذا المؤشر تحتل المرتبة 16 بين عشرين دولة عربية، وهو دليل على أن القرار السياسي لا يعبر عن مؤسسات (كما يتضح من مؤشر الديمقراطية) ولا عن الرأي العام (ودليل ذلك ان السلطة السعودية موافقة على التطبيع مع إسرائيل مقارنة برفض شعبي سعودي له بمعدل يتراوح بين 88 و 91% حسب عدد من الاستطلاعات).

ب‌- مؤشر غيني (Gini Index) وهو مؤشر يقيس درجة سوء توزيع الثروة في المجتمع، ويشير توزيع الثروة في السعودية إلى التقسيم التالي:

– الطبقة العليا وهي 10% من السكان تمتلك 54.1% من الثروة

– الطبقة الوسطى وتمثل 40% من السكان تمتلك 35.1% من الثروة

– الطبقة الدنيا وتمثل 50% من السكان تمتلك 10.8% من الثروة

 هذه الأرقام تجعل السعودية تحتل المرتبة 157 من بين 178 دولة في عدالة التوزيع.

ج‌- أما معدل الحرية الاقتصادية في السعودية فيشير إلى أنها تحتل المرتبة 101 وبمعدل 58.30%، وهو مؤشر على أن تنفيذ خطة 2030 لن تكون بذلك اليسر الذي جرى الترويج له، فالخطة قائمة على اعتماد سعر 80 دولار للبرميل، وهو أمر مرتبط بعدد كبير من العوامل السياسية والاقتصادية والتكنولوجية، مثل حجم الانتاج العالمي، حجم الزيادة في مصادر الطاقة البديلة، الصراعات الدولية أو تسوياتها، قضايا المناخ، المنافسات بين دول الأوبك ودول الأوبك +…الخ.

كما أن أغلب الخبراء يشيرون إلى أن قدرة السعودية على بلوغ حد تنويع مصادر دخلها من غير القطاع البترولي لن يتحقق قبل 2035 -2040، ناهيك عن أن التطور التكنولوجي ومستوى التطور الاجتماعي والبحث العلمي في المجتمع السعودي ما زال بعيدا عن النهوض بالمعنى المعروف، ولعل بعض الانجازات مثل اتساع مساهمة المرأة في ميدان العمل لا تكفي لخطة طموحة.

د‌- الاستقرار السياسي:

يمثل الاستقرار السياسي أحد شروط النهوض، لكن معدل الاستقرار السياسي في السعودية يقع في الجانب السلبي وبمعدل (0.36 بالسالب على مقياس كوفمان الذي يتراوح بين +2.5 و – 2.5)، وهو ما وضع السعودية في المرتبة 126، فإذا أضفنا لذلك أن معدل الاستقرار في الإقليم يعد من أسوأ معدلات الاستقرار بين أقاليم العالم، ويكفي أن نشير إلى أنه من بين أعلى عشرين دولة في عدم الاستقرار في العالم هناك 8 دول عربية، و7 دول مجاورة للدول العربية، وهو ما يجعل غواية الاستثمار في المنطقة تنطوي على مخاطر، ورأس المال جبان -كما قال ماركس-، ناهيك بعد كل ذلك عن الإحن الكامنة بين الدول الخليجية ذاتها.

ج‌- أن عدم الاستقرار الداخلي والاقليمي يولد نزعة العسكرة،

فالسعودية تحتل المرتبة الثانية عالميا في حجم المشتريات العسكرية خلال الفترة من 2019-2023، فقد كان مجموع مشترياتها هي وقطر ما يعادل 50% من مجموع المبيعات العسكرية الامريكية..

إذن نحن أمام دولة هشة داخليا (بفعل التخلف الاجتماعي وتشقق الأسرة الحاكمة، وضرب الحركة الدينية التي مثلت المرشد الفكري للمجتمع …الخ)، كما أنها دولة تنتمي لمنطقة هي الأعلى في عدم الاستقرار داخليا، ويبدو أن كل ما سبق هو ما دفع القيادة السعودية الحالية إلى بلورة تصورها الذي يقوم على:

أ‌- محاولة حصار الخطر من جانبين هما:

حصار امتداد الحركات الدينية الاسلامية الى السعودية والبدء بتنظيم نفسها بهدف التغيير، وهو ما يتجلى في تحريض الاعلام السعودي على حركات المقاومة في كل المنطقة، والاستعداد للعمل على التطبيع مع اسرائيل للاستعانة بها لتطويق هذا الخطر.

ب‌- محاولة «غواية إيران أو إجبارها» لمنعها من أن تكون عامل تثوير في المنطقة، ولا شك أن هذا الهدف يتعانق مع طموح إسرائيلي لم تخفه دوائر القرار الإسرائيلي.

ج- من غير الممكن لدول الخليج التي انضمت الى اتفاق ابراهام ان تقوم بالتطبيع دون موافقة مسبقة من السعودية، وذلك لمحاصرة كل عوامل التغيير في المنطقة، وهو امر اكده بشكل صريح وزير الخارجية الامريكي السابق مايك بومبيو.

د- اعتماد دبلوماسية الخطوة خطوة في التطبيع مع اسرائيل لعدة اسباب:

1 –   ترويض الحس المجتمعي السعودي ضد اليهود، لكي يتجرع القرار تدريجيا.

2 –تشترط السعودية عودة سلطة التنسيق الأمني إلى غزة لضمان خنق النموذج المقاوم الذي أفرزه الطوفان.

3 – يبدو أن الحكومة الأمريكية تريد تحقيق التطبيع السعودي الإسرائيلي قبل نوفمبر القادم لكي يستثمره بايدن في الانتخابات الرئاسية القادمة، لكن استمرار المقاومة في قطاع غزة، واستمرار جبهات الإسناد في اليمن ولبنان والعراق يزيد من احتمال تطور الأمر إلى حد المواجهة الاقليمية مما قد يفسد كل ذلك.

4 – تتوخى السعودية ان هذا النهج سيؤدي إلى استقرار المنطقة وبالتالي تغييب عوامل التهديد للنظام السعودي من ناحية، وضمان بيئة اقليمية تيسر نجاح مشروع 2030.

آفاق ذلك كله:

ستسعى الولايات المتحدة خلال الفترة القادمة الى:

أ‌- السعي لتقليص العلاقات الصينية السعودية

ب‌- تطبيع العلاقات الاسرائيلية السعودية

ج‌- التحلل من أية التزامات تطبيعية سعودية تجاه إيران والعودة لسياسات حصار إيران وحلفائها، ولعل وقف إطلاق النار في غزة يساهم حسب التصور الأمريكي في إضعاف الدور الإيراني، كما ان تضخيم الخطر الايراني يساهم في تسويغ الاستعانة السعودية بأمريكا.

د- المشاركة في الوضع القادم في غزة (من منظور امريكي) من خلال:

1- المساهمة السعودية في الاعمار بالقدر الذي يلجم اي نقد للسلطة السعودية في موقفها من الحرب.

2- المساهمة السعودية في قوة حفظ سلام عربية في القطاع.

3- التواصل مع شخصيات فلسطينية بعيدة عن المقاومة لتساهم في تشكيل حكومة فلسطينية معتدلة تقبل بتأجيل النظر في موضوع الدول الفلسطينية.

4- التركيز في الفترات الاولى على غزة أكثر من الضفة الغربية، لعل ذلك يساهم في جعلها هي الحل النهائي على المدى البعيد لا سيما مع استمرار وتيرة الاستيطان في الضفة.

أما الموقف الأمريكي، من خلال مبادئ بايدن الشرق أوسطية فهي:

أ‌- العمل على تفكيك محور المقاومة تماما عبر الجمع بين «ذهب الخليج وسيف إسرائيل»

ب‌- التأكيد على ان الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح وأقرب للإدارة المحلية منها لدولة ذات سيادة اقليمية

ج- مساندة أمريكية سعودية لمشروع الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي للتضييق على المشروع الصيني (الحزام والطريق) العابر للمنطقة العربية.

الخلاصة:

إن الهدف السعودي القادم هو المشاركة في اجتثاث المقاومة وكافة الحركات الإسلامية، والعمل على بناء كتلة تضم إسرائيل ودول التطبيع ثم محاولة توسيع هذه الكتلة إلى حد الوصول لخلل في موازين القوى ضد إيران.

لكني أرى أن السنوات القليلة القادمة ستؤدي إلى إعادة تركيب البنية الجيواستراتيجية للمنطقة وهو ما سيطوي معه أوهاما كثيرة.

د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى