مقالات

رانيا مصطفى تكتب: المسكوت عنه في حرب غزة (1)

بسبب الخطاب الشعبوي الذي يحاصر التحليل الموضوعي لحرب غزة، يخشى الكثيرون تفسير الأحداث وفقا لمجراها التاريخي حتى لا يتهموا بطعن المقاومة وهي الأحوج للدعم والدعاء.

في هذا المقال سأحاول توضيح حقيقة ما قد يسكت عنه المحللون وما لن تسمح مواقع الرأي الواحد بنشره لأنه سيخالف بالتأكيد الأفكار التي تصب كلها في اتجاهين لا ثالث لهما، إما مع المقاومة أو ضدها.

للأهمية سأدمج لكم ما قد فصلته في مقالات سابقة لي عن قصة التطبيع العربي الاسرائيلي وارتباطها بقصة الرأسمالية والاشتراكية في العالم لأضع أمام أعينكم وجهة نظري فيما يجري على أرض فلسطين اليوم من منظور تاريخي.

كانت ولازالت الصراعات بين القوى الاقتصادية الكبرى في العالم هي التي تصنع التاريخ  كما قال تشرشل:”المال هو عصب الحرب”، فالمال ومن خلفه السلاح الذي يحميه هو ما يصنع السياسة ويحرك الساسة ليتجنبوا خسائر المعارك التي قد تكون هي الحل الأخير إذا تضاربت المصالح.

قديما، كان الفرس والروم هما القوتان العظميان، وبسقوط بلاد فارس انحصر الصراع بين الروم والروم لتبرز فرنسا وانجلترا كقاطرتين تقودان أوروبا وتتمكنان من اسقاط الدولة العثمانية وتفكيك الامبراطورية الروسية.

سيطرت الرأسمالية على العالم منذ بداية نشأته وكانت الرسائل السماوية هي التي تضبط سلوكها، لكنها مع تباعد الزمن تعود لتتوحش فيظهر الفساد في البر والبحر وتخبو عناصر الضبط.

نبه ظهور الاسلام كقوة اقتصادية اجتماعية شاملة رحيمة عادلة المفكرين في بلاد الرأسمالية المتوحشة، وألقت أفكاره الجديدة بظلالها على أفهام الفلاسفة، فتغيرت نظرتهم التقليدية لعقائدهم وسياساتهم، ومن هنا بدأ طوفان تجديد الخطاب الديني والسياسي والاجتماعي بأوروبا.

انتهى الصراع الديني- السياسي الأوروبي إلى انشقاق الكنيسة ما بين أرثوذوكسية قديمة تبنتها روسيا، وكاثوليكية جديدة احتضنتها فرنسا، وانجيلية وسطية أخرجت انجلترا من مأزقها، وخرجت ألمانيا من سوق الكنائس والقوى خالية الوفاض؛ أدى ذلك كله في النهاية إلى انشقاق المحفل الماسوني إلى انجليزي وفرنسي.

وهكذا تكونت ضفتان لنهر الاقتصاد العالمي، ضفة رأسمالية تعضدها الكنيسة، ويدعمها المحفل الماسوني الانجليزي وأذرعه، وتحقق انتصاراتها بالمال والسلاح والنفوذ؛ أما الضفة الأخرى فهي اشتراكية لا دينية، يساندها المحفل الماسوني الفرنسي، وتعتمد مكاسبها على استثارة الشعوب وإثارة البلبلة؛ وما الاشتراكية في حقيقتها إلا أحد الأنفاق الموصلة إلى الرأسمالية ولكن بصيغة مختلفة.

بعد انتهاء الحرب الأهلية في أوروبا والعالم الجديد،استطاع الرأسمالي الأوروبي والأمريكي ترويض الاشتراكية في أراضيهما وتحديد أطرها الاجتماعية والليبرالية بحيث تظل تحت السيطرة للحفاظ على البلاد من السقوط في آتون حرب جديدة لا يتمنيان تكرارها.

وفي المقابل، تستغل الاشتراكية الأوروبية والأمريكية مكاسبها في أراضيها ليصبح ما حققته هناك جزرة تحلم بها كل الدول المستقلة حديثا ولن تصل إليها أبدا، لأن النموذج الاشتراكي الأوروبي/الأمريكي صُنع ليشارك الرأسماليين مطامعهم، ولينغص عليهم استقرار الحكام الموالين لهم في مواطن مصالحهم لا ليحقق العدالة في العالم .

كما انشقت الكنيسة، وانشق المحفل الماسوني، وانشق المسلك الاقتصادي، وانشقت الأحزاب السياسية والحركات والجماعات، انشطرت الحركة الصهيونية إلى شرقية وغربية بعد تصنيف اليهود بحسب مواطن استقرارهم إلى أشكيناز شمال أوروبا، وسفارديم نازحين إلى الشرق الأوسط من اسبانيا والبرتغال، ومزراحيين يسكنون آسيا الوسطى وشبه الجزيرة والحبشة.

تغلغل اليهود الأشكيناز الرأسماليين ذوي الثروات والنفوذ فى عمق مراكزصنع القرار في بريطانيا، وكانوا قد استشعروا عظم خطر دعم فرنسا الخفي لليهود الشرقيين المهمشين «السفارديم والمزراحيين» المتخلفين من وجهة نظرهم.

بعد أن استنسخت بريطانيا النموذج الصهيوني الشرقي وصبغته باللون الغربي، فرضت وصايتها على حلمه أيضا، فقررت أن تمنح اليهود وطنا وأن توجه القوى الرأسمالية اليهودية الأوروبية والأمريكية التجارية والمالية إلى إنشاء مركز يهودي يجعل منهم قوة تناطح القوى الدولية رأسا برأس، وبذلك تأسست الحركة الصهيونية الغربية.

نفذت بريطانيا وعدها البلفوري بتصدير الفائض اليهودي الأشكينازي إلى فلسطين، بحيث يصبح  حجر أساس لمشروع طريقها التجاري المستقبلي«حيفا/الخليج» البديل لقناة السويس والذي لا تزاحمها في ادارته فرنسا. كان العالم يتحضر لمنح الدول المستعمرة استقلالها، وكانت بريطانيا تعلم أن جلاء أي قوة عسكرية أجنبية عن أراض ليست لها أصبحت مسالة وقت، لذلك زرعت نبتة الكيان اليهودي وعملت بكل جهدها لتصبح شجرة زقومها في قلب بلاد العرب.

استطاعت أوروبا الرأسمالية تصدير اليهود بتوظيف المجازر النازية، وإغلاق الحدود الأوروبية والأمريكية أمام الفارين منهم، وتنظيم نقلهم إلى فلسطين لإعادة توطينهم فيها.

بعد عزوف يهود أوروبا عن الهجرة إلى فلسطين وتفضيلهم الاستقرار في أمريكا الشمالية وأستراليا وأوروبا، احتاج اليهودي الأشكينازي الذي أسس كيانه على أرض الشعب الفلسطيني بدعم المجتمع الدولي، إلى اقتلاع اليهود المزراحيين والسفارديم من أوطانهم عبر اتفاق الصهاينة الغربيين مع قادة الدول العربية والإسلامية المستقلة حديثا عن الدولة العثمانية، وهكذا حصل على قوة عاملة بشرية تنهض بالدولة المأمولة.

برغم أن الأشكيناز يضعون السفارديم والمزراحيين في نفس السلة، إلا أن السفارديم يعتبرون أنفسهم الأقرب للأشكينازلانتمائهم إلى أوروبا.

بعد سرقة انجلترا حلم الصهيوني الشرقي ببناء دولته، استطاع  هو بدون كيان جامع وبدون الاعلان عن نفسه اقناع شعوب العالم بأن عدوها الأوحد هو الصهيوني الرأسمالي، ليحمل بذلك الغربي وحده ذنوب وحشيته وهمجية الشرقي معا، وذلك باستخدام أدوات كصناعة أفلام غامضة مثل «الماعز الأليف»، وكذلك الترويج لكتب تنبؤية مثل «بروتوكولات حكماء صهيون».

ألصقت الصهيونية الشرقية خططها المستقبلية بالصهيوني الغربي، ومن ضمنها مثلا، إقامة دولة اليهود من البحر إلى النهر، وتقسيم العالم الاسلامي لدويلات؛ لذلك أقول دائما أن التطبيع مع الصهيونية الرأسمالية الغربية يساوي التطبيع مع الصهيونية الاشتراكية  الشرقية، فالطرفان لهما نفس الغرض وإن اختلف لسان المتحدث باسميهما.

يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى