رد طهران على عدوان إسرائيل وحدود مناورة إيران وتركيا في النظام الدولي
بقلم: عبد المنعم منيب
لقد أشرنا مرارا في العديد من كتاباتنا إلى النموذج الإيراني والنموذج التركي في السياسة الدولية وأوضحنا أن كلا منهما يحاول حيازة قدر لا بأس به من الاستقلال في السياسة الدولية مع محاولة تحقيق قدر لا بأس به من الانفكاك من الهيمنة الكونية التي تمارسها المنظومة الصهيوصليبية على العالم بأثره منذ أكثر من 300 عام أو على الأقل الابتعاد عن هذه الهيمنة بقدر كبير.
لقد أتت عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في قلب طهران وفي استراحة تابعة للحرس الثوري الإيراني وقبلها اغتيال رئيس أركان قوات حزب الله فؤاد شكر في بيروت وقبلها قصف ميناء الحديدة اليمني التابع لحركه الحوثيين في اليمن، جاءت هذه الأحداث الثلاثة المتتابعة لتضع إيران والمحور الإيراني على المحك من عدة جوانب:
أولا- اهتزاز الردع تجاه إسرائيل واقترابه من الزوال.
ثانيا- هيبة إيران ومكانتها على المستوى الإقليمي والدولي.
ثالثا- وضع إيران في اختبار هي ومحورها بشأن مدى إخلاصها وصدقها تجاه المقاومة الفلسطينية من جهة أن المقاومة الفلسطينية هي كيان سُني، لا سيما أن هناك أعداء إيران والمحور الإيراني الذين يروجون دائما بأن إيران تعمل لمصلحة الشيعة فقط وأنها لا تهمها المقاومة السُنية من قريب أو بعيد وإنما هي مجرد مطية لتحقيق مشروعها الشيعي السياسي إن على المستوى الإقليمي أو على مستوى العالم الإسلامي أو حتى على المستوى الدولي.
إن هذه التحديات الثلاثة وضعت النموذج الإيراني في التعامل مع السياسة الدولية الاقليمية والكونية على المحك وجعلتها في موضع الاختبار.
لقد تكلمنا سابقا مرارا عن النموذج التركي وأنه يحاول أن ينتزع لنفسه استقلالا ومكانة في السياسة الإقليمية والدولية عن طريق التحايل والمناكفات إزاء المنظومة الصهيوصليبية المهيمنة على النظام الدولي ويتسلح في هذا بالعديد من القدرات التفاوضية والحيل السياسية والعلاقات العامة بجانب العلاقات الدولية الوثيقة مع القوى الدولية الكبرى الصاعدة في النظام الدولي مثل الصين وروسيا وغيرهما مع إجراء العديد من الصفقات والمقايضات مع قوى المنظومة الصهيوصليبية.
وكنا نقارن بين هذا الأسلوب وبين أسلوب إيران المتسم بمزيد من الكفاحية تارة والتظاهر بالكفاحية تارة ثانية والتهديد بالكفاحية تارة ثالثة وكل ذلك ممزوج بقدر كبير من المناكفات والحيل والصدامات المحسوبة بدقة مع المنظومة الصهيوصليبية بجانب المقايضات والصفقات السرية في أكثرها والعلنية أحيانا مع المنظومة الصهيوصليبية.
وكل هذا واضح لكل مراقب -بصير- للأحداث إن بشأن النموذج التركي والمشروع التركي الإقليمي والدولي أو بشأن النموذج الإيراني والمشروع الإيراني الإقليمي والدولي، ولكن هناك أمرا طالما غاب إدراكه عن كثيرين بشأن النموذج الإيراني حيث أن التظاهر بالقوة والقدرة والكفاحية أو الجهادية أو المقاومة إزاء المنظومة الصهيوصليبية أعطى انطباعا لدى البعض بأن إيران تكاد تكون تحررت من هيمنة المنظومة الصهيوصليبية على الأقل إقليميا بقدر أكبر بكثير من تركيا، بل وظنوا أنها يمكنها معاندة منظومة الهيمنة الصهيوصليبية بقوة كبيرة أو حتى بلا حدود فيما يخص الشأن الإقليمي وبدرجة ما بعض الشؤون الدولية، لكن الضربات الصهيونية الثلاث للحُدَيدَة باليمن ثم في بيروت باغتيال فؤاد شكر ثم في طهران باغتيال إسماعيل هنية هذه الضربات التي تتابعت لتكون كل يوم ضربة كبرى تأتي لتختبر مدى القدرة الإيرانية على معاندة المنظومة الصهيوصليبية على المستوى الإقليمي وخاصة إزاء إسرائيل.
ونظرا لأنه قد مر حتى اليوم نحو ثلاثة أسابيع على توعد إيران بالرد وكذلك تعهد حزب الله والحوثيين بالرد، وكل هذا دون أي رد مع تواتر الملامح التي تشير إلى أن إيران وحلفاءها تُمارَس عليهم ضغوط كبيرة جدا بأشكال مختلفة (ترغيبا وترهيبا) من قبل المنظومة الصهيوصليبية لمنع الرد أو جعله ردا صغيرا مظهريا فقط مثلما حدث في 13/14 ابريل الماضي.
ومن هنا يبرز أمام أعيننا مدى قدرة نماذج من القوى الصاعدة مثل إيران أو تركيا أو أي قوة إقليمية إسلامية إذا كانت تسعى للانفكاك من نير الهيمنة الصهيوصليبية على العالم، حيث بات من الواضح أنها قدرة محدودة جدا لما يكتنف كلا النموذجين سواء الإيراني أو التركي من خلل هيكلي منع كلا منهما من الوصول الى القدرة المستقلة و حرية الحركة الاقليمية والدولية لاسيما إذا كانت هذه الحركة في مواجهة قلب المنظومة الصهيوصليبية هذا القلب المتمثل في إسرائيل أو الولايات المتحدة، لأنه صار واضحا بلا شك أن اسرائيل تتمتع بحريه مناورة بل حرية عمل مطلقة في ممارسة السياسة الدولية والإقليمية بلا حساب باعتبارها لها نفس صلاحيات الولايات المتحدة الأمريكية نفسها فضلا عن صلاحيات القوى الصليبية الكبرى مثل المانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا.
وهو أمر جدير بالدراسة والتحليل التفصيلي كي نصل إلى تحديد العوامل الرئيسة التي تمكن أي قوة صاعدة من الانفكاك من هذه الهيمنة، وربما مما يعين على إدراك أهم هذه العوامل التي تعطي أي قوه استقلالها وقدرتها على الحركة المستقلة إقليميا أو دوليا هو أن نَلمَح ما هي عناصر القدرة التي تحافظ المنظومة الصهيوصليبية على منع أي قوه صاعدة من حيازتها مادامت غير تابعه لها ولعل أبرزها وأهمها التالي:
أولا- الثراء الاقتصادي حتى لو كان هذا الثراء تابع للمنظومة الصهيوصليبية اقتصاديا.
ثانيا- الاستقلالية والقدرة المتكاملة في الانتاج الصناعي والزراعي والتمكن من كل أنواع التكنولوجيا اللازمة لتحقيق هذه الاستقلالية.
ثالثا- الاستقلالية والقدرة المتكاملة في مجال صناعة الأسلحة الرئيسية والأساسية التي تحقق لمالكها القدرة المناسبة للانتصار في أي صراع عسكري حتى ولو كان صراعا دفاعيا وليس هجوميا، بما في ذلك القدرة على تحقيق الردع الاستراتيجي بالأسلحة النووية أو الكيماوية والجرثومية، لأنه إذا كان السلاح النووي هو رادع غير تقليدي وهو أداة القوى العظمى للردع الاستراتيجي فإن الأسلحة الكيمائية والجرثومية هي رادع فوق تقليدي وهو أداة الفقراء للردع الاستراتيجي، وعلى كل حال فإن من أهم لوازم حيازة هذا الردع امتلاك وسائل توصيل السلاح النووي وغيره إلى البقاع المستهدفة مثل امتلاك الصواريخ والطائرات القادرة على الوصول للهدف مهما كان بعيدا ومهما كان حجم ونوعية الدفاعات عنه.
رابعا- وهو أهم الأمور على الإطلاق إن لم يكن أهمها مطلقا وهو تحقيق التنمية الاقتصادية المستقلة بأن تتمكن القوة الصاعدة من تحقيق اكتفاء اقتصادي شامل بعيدا عن أي تبعية للنظام الرأسمالي الدولي الذي تحكمه وتكرسه المنظومة الصهيوصليبية المهيمنة على العالم.
إن السعي لتحقيق هذه التنمية الاقتصادية المستقلة وصولا لتحقيق اكتفاء ذاتي مناسب مستقل عن المنظومة الصهيوصليبية الرأسمالية الدولية مجرد هذا السعي يدفع هذه المنظومة لمحاربة هذه القوة الساعية لهذا الاستقلال حربا خفية وعلنية وباردة وساخنة وبكل الأساليب.
خامسا- القدرة المتكاملة المناسبة على حماية الأمن القومي داخليا وخارجيا لأن عدم تحقيق هذا الأمر يتيح للأعداء العبث بأمن الدولة واستقرارها داخليا وتهديدها خارجيا مما يعوقها عن النجاح في إنجاز الأمور الأربعة المذكورة آنفا، وبالتالي فقضية النجاح في حفظ الأمن لا تقل أهمية عن تحقيق الثراء والتنمية الاقتصادية المستقلة والاستقلال الذاتي زراعيا وصناعيا وحيازة الرادع الاستراتيجي.
وفي الختام من المهم أن نؤكد أن هذا التحليل ليس دعوة لليأس من التمرد على المنظومة الصهيوصليبية والتحرر من هيمنتها على العالم ولكنه دعوة لحسن التحرر باعتبار أن النموذج التركي والنموذج الإيراني لم ينجح حتى الآن في التحرر الكامل بسبب الخلل الهيكلي الموجود في مشروع كل منهما في المجال الاقتصادي، وأبرز خلل في هذين المشروعين اقتصاديا هو انعدام التنمية الاقتصادية المستقلة التي تصنع اقتصادا مكتفيا ومستقلا عن الاقتصاد الرأسمالي الدولي الذي صنعته وتديره وتهيمن عليه المنظومة الصهيوصليبية.
إن إيران رغم أنها تستعين بأساليب ملتوية وحيل عديدة للتهرب من العقوبات الصهيوصليبية الاقتصادية والمالية والتحايل عليها مع تقوية صلتها بالقوى الغير خاضعة بشكل كامل للمنظومة الصهيوصليبية مثل الصين وروسيا ولكن مع هذا ما زالت إيران تحتاج للمنظومة الرأسمالية الدولية وهذا مما يضعف موقفها الاستقلالي ويعرضها للعديد من الضغوط.
ومن الملاحظ أن تركيا في نفس المجال ليست أحسن حالا كثيرا؛ لأن تركيا رغم أنها حققت تنمية اقتصادية كبيرة ولكن هذه التنمية مرتبطة بالنظام الرأسمالي الدولي فنجد أن الدخل الكبير الذي يعود على تركيا من العملات الصعبة يأتي أغلبه من التجارة والارتباط بالرأسمالية الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية بجانب ارتباطها الكامل بالنظام المالي والنقدي الدولي الرأسمالي، ومن هنا فإن النظام الرأسمالي الصهيوصليبي يتلاعب بها من حين إلى آخر، ويمارس عليها ضغوطا مختلفة سرية وعلانية من حين إلى آخر بسبب ميولها الاستقلالية سياسيا وعسكريا واجتماعيا، كما أن تركيا بعيدا عن هذه الضغوط المتعمدة فهي تعاني من جهة أن النظام الرأسمالي بشكل عام هو نظام يعتريه خلل كبير يجعله يفرز العديد من الأمراض والمشكلات، وكل اقتصاد يرتبط به فإنه يتعرض لنفس هذه الأمراض والمشكلات من حين إلى آخر بما في ذلك التوالي تبادليا بين التضخم والكساد، إلى جانب الانهيارات المفاجئة من حين لآخر، فضلا عن سوء التوزيع والاحتكارات الكبرى والآثار السلبية لذلك كله على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ومن ثم السياسية.