أقلام حرة

سعاد عبد الله دعوب تكتب: هل يفرح المؤمنون بنصر الله؟

يخيل إليّ أن للقرآن في إعجازه فنونا لم يصلها عقل بشري لحد الآن، ولو سئلت قبل يومين لماذا قال الله في سورة الروم عن قصة انتصار الروم على الفرس: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، ما عدوتُ أن قلت: إنه الفرح بسنن الله الكونية في الاستقواء بنصر عدو عدوك عليه.

وأن النصر المذكور في الآية عامٌ بعموم مفعوله وهو «من يشاء» فكل منصور داخل في هذا العموم، أي من يشاء الله نصره لحكم يعلمها وحده سبحانه، وإرادته تعالى لا يسأل عنها؛ فالعزيز المطلق هو الذي يغلب كل مغالب له، أما الرحيم فإشارة إلى أن عزته تعالى لا تخلو من رحمة بعباده، ولولا رحمته لما أدال للمغلوب دولة على غالبه، مع أنه تعالى هو الذي أراد غلبة الغالب الأول، فكان الأمر الأول بعزته.

خلاصة الإشارة:

إن فهم القرآن فهمًا سطحيًا لا يجاوز ما ذكر، لكنك إذا ما أجَلْت الفكر في حواضر هذا الفهم في عالمنا والواقع الذي تعيشه الإنسانية اليوم، هزك عِظم هذا الإعجاز البياني الكوني منقطع النظير.

مات نصر الله وكُسر حزبه وامتلأت بألوان الفرح والابتهاج مواقع «الفُرجة» الاجتماعية في عالمنا العربي المهووس بالمراقبة والتهليل، ما بين مستحضر لسيئات الحزب ومتشمت بما آل إليه وضعه، فرحا بنصر الله بعد اغتيال نصر الله؟

فهل هذا حقا نصر الله؟ وهل لمثل هذا يفرح المؤمنون؟

ظاهرة الهوس بالمتابعة والسكون حين تحتدم المعارك الكونية هو ديدن الضعفاء، الذين ينتظرون صفا قويًا يقفون معه، وهذه سنة طبيعية، أما أحادية النظر لهذه المعارك في خط لا يتغير ودون وعي بعواقب هذه المعارك، فضرب من التشوه المنهجي والخلل العقلي الذي تعانيه شعوبنا العربية ما بعد انتكاسة حركات التغيير، حيث أصبح إبداء الانفعال العاطفي والتأييد المطلق أو المعارضة المطلقة دون موازنة بين المهم والأهم، والعام والخاص، وما كان وما يكون، هو جل ما تقدر عليه، وما أخطره من منهج في عالم يسوده منطق حق القوة ، والتوازن النسبي في هذه القوى لا قوة الحق.

وإذ يمارس الجمهور العربي دوره التقليدي بالفرجة على الهجمة العنيفة التي يشنها الكيان الصهيوني على آخر حاجز صد يقف أمام التهام قضية الأمة، فإن إظهار الفرح لموت شخص أوغل في دماء بعض أبناء الأمة ليس فرحًا بنصر الله، ولا يمكن أن يكون فرحا للمؤمنين؛ لأن المؤمن الحق يعرف أن أولوية الجهاد وحفظ الدين مقدمة على الحق الشخصي، وأن ضرر العدو الأجنبي الصائل في وقت الصولة والهجمة، أشد من ضرر العدو القريب في زمن مضى وانقضى.

 إن المعنى المعجز والدقيق في الآية هو تعبيره سبحانه بالنصر لله وليس للبشر، مع أن القتال كان بين فئتين غير مؤمنتين بالله، إلا أن هذا النصر فيه عزة للمسلمين؛ دليل على أن المعيار الذي يقاس به النصر المفرح والهزيمة المؤلمة هو ما يحفظ دين الله، وليس بما يشفي الصدور في ظاهره ولكنه مؤدٍ لضياع الدين والعصبة فيه على أي حال كانت.

وإن كان الفرح وعدمه ليس معيارًا مهمًا في مثل هذه المعركة؛ إلا أن تصحيح المسميات، وتحديد الأولويات هو أول خطوط التغيير ومنطلقات النصر الذي نرجوه من الله.  وقديمًا قال عمرو بن العاص، رضي الله عنه،: «ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعرف خير الشرين».

ولأصناف الفرحين بانتقام إسرائيل لدمائهم: افرحوا بما شئتم، لكن لا تنسبوه لله ولا للمؤمنين، فإن نصر الله قائم على عقيدة التوحيد فهي تكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس، وأحداث الحياة، ومعاركها المصيرية، وسنن الكون ونواميس الوجود. وتحت تأثير هذه الارتباطات يمكن أن نقيم كل حركة، وكل حادث وكل حالة فرح أو سكون، وكل نشأة وكل عاقبة، وكل نصر وكل هزيمة.. كلها مرتبطة برباط وثيق، محكومة بقانون دقيق أن مرد الأمر فيها كله لله، فـ: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ}.

الفرح بمعارك الآخرين التي تدور كل رحاها فوق دمائنا ليس صعبًا، وإنما الصعب هو اختيار موقفنا من الطرق المؤدية لحسمها إلى أين تسير: مع مصالحنا أم ضدها؟

وما كانت مؤونة المؤمن يومًا الفرح بسنة كونية موجودة منذ وجد الخير والشر، كسنة «سلط الظالمين على الظالمين»، وإنما تحديد موقفه الشرعي مما تؤدي إليه، فالحساب إنما هو على اختياراتنا وأفعالنا لا على حركة الكون، ولا دوران الدوائر على من دارت، ولكن على: من ستدور، وكيف!

سعاد عبد الله دعوب

                                [email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *