صخري محمد يكتب: سقوط مقامرة أتاتورك وصعود الإسلام السياسي

أدى سقوط الدولة العثمانية، إلى تأسيس الجمهورية التركية الأولى عام 1923. ثم أعقب ذلك بعام إلغاء الخلافة، ونفي ما تبقى من الأسرة العثمانية خارج تركيا، وتجريدهم من جنسيتهم. وتحولت تركيا إلى دولة وطنية علمانية قائمة على دستور عام 1924، حيث سعى أتاتورك إلى تنفيذ أجندة تحديثية متأثرة بأفكار الثورة الفرنسية وإصلاحات بطرس الأكبر، أول إمبراطور لروسيا.

لقد شملت عملية التغيير كافة جوانب الحياة في وقت واحد وبعنف، حيث تم إلغاء المدارس الدينية، وحظر ارتداء الملابس الدينية لجميع رجال الدين بغض النظر عن عقيدتهم أو طائفتهم، وتم ترسيخ المساواة بين الجنسين في القوانين، وتم حظر الحجاب، وتم استبدال الخط العربي المستخدم لكتابة اللغة التركية بالأبجدية اللاتينية، وحتى أذان الصلاة صدر أمر بترجمة وتلاوة باللغة التركية بدلاً من العربية في ثلاثينيات القرن العشرين. وتم حظر أي مناقشة للقومية أو الأقليات في تركيا، وتم تحديد الهوية التركية بنص دستوري فريد من نوعه على أنها هوية المسلم المقيم داخل جمهورية تركيا، مع تحديد الأقليات فقط على أنها غير مسلمة، كما ورد في المادة 60 من الدستور.

كان أتاتورك يأمل أن تحل هذه السياسات أزمة الجمهورية التركية الوليدة. فعند فحص الخريطة التركية، نجد أن جميع جيرانها يختلفون ثقافياً وعرقياً ودينياً ولغوياً، حيث تقلصت مساحتها إلى 783.562 كيلومتراً مربعاً فقط. ورغم موقعها الاستراتيجي المهم بين آسيا وأوروبا وساحلها المتوسطي باتجاه أفريقيا، أصبحت تركيا معزولة دون أي عمق استراتيجي للتواصل وتأمين مصالحها. ولمعالجة هذه القضية، رأى أتاتورك أن الحل في التوجه نحو الغرب، والتخلي عن الماضي العثماني باعتباره إرثاً بغيضاً لا يمثل تركيا وشعبها، والتأكيد على أن تركيا الحديثة دولة قومية للأتراك ذات ثقافة وحضارة تسبق الإسلام بقرون، وتفصلها عن الإسلام والحضارة الشرقية بينما تربطها بالحضارة الغربية.

ومن الضروري أن نؤكد أن نموذج أتاتورك لم يكن نموذجاً علمانياً، بل كان نموذجاً شمولياً متطرفاً، حيث استخدمت الدولة كل الوسائل المتاحة من القمع والعنف والقوة لفرض قيمها على المجتمع ضد إرادته. والعلمانية، بعيداً عن المناقشات والتأويلات الجارية، ليست عقيدة ولا أيديولوجية، بل هي منطق تفكر فيه الدولة الحديثة في حل مشاكل مواطنيها وبناء مستقبل وفقاً لقوانين العالم الذي تعيش فيه. وهي لا تعني العداء للدين أو التدخل في معتقدات المجتمع ووجهات نظره تجاه الحياة؛ بل إنها تمثل طريقة تفكير للكيان القانوني المسمى الدولة.

الجمهورية العسكرية

لقد كان الجيش التركي هو الأساس الذي بنيت عليه الجمهورية التركية الحديثة، فهو قوة وطنية تحررية رفضت أوامر آخر سلطان عثماني بالتخلي عن الأراضي التركية، وخاضت تحت قيادة أتاتورك حرباً شاملة ضد التحالف الغربي المعادي للشعب التركي، الأمر الذي سمح بتأسيس جمهورية كان أتاتورك أول زعيم لها، مدعوماً بجيش حافظ على نظامها الدستوري. وبالتالي لا يمكن فصل الجيش عن الجمهورية الأولى أو الحديث عن فصل الجيش عن السياسة، ولكن الحالة التركية لها سمات مميزة لأن الجيش هو الذي أسس الدولة، ولم يكن نتاجاً ثانوياً للدولة كما في أغلب الحالات الأخرى.

كما لعب الجيش دوراً حاسماً في حفظ النظام، وذلك لأسباب عدة، كان أهمها أن أغلبية الشعب التركي لم تقبل التحول القسري إلى العلمانية المتطرفة التي تبناها أتاتورك. فتركيا موطن لفسيفساء عرقية وطائفية متنوعة، ولم يعترف الدستور بهذا التنوع ولم يمنح الأقليات حقوقها. فضلاً عن ذلك، كان موقع تركيا الاستراتيجي مهماً، حيث كان الاتحاد السوفييتي من جهة والغرب ممثلاً بأوروبا وأميركا من جهة أخرى، إلى جانب الفصائل السياسية المختلفة المتحيزة لكلا المعسكرين داخل حدودها، وكل منها يسعى إلى السلطة.

كان أتاتورك يعتقد أن الجمهورية التي تأسست بين عشية وضحاها لن تصمد أمام اختبار الزمن ولن تتمكن من تشكيل هوية وطنية موحدة بعد أكثر من ستة قرون من الحكم الإمبراطوري المتمثل في سيادة مطلقة في هيئة سلطان، وهوية روحية مستمدة من الإسلام. وكان يعتقد أن الجيش هو العمود الفقري القادر على ضمان هذه الوحدة الوطنية والحفاظ على القومية التركية الناشئة.

لقد ظل الجيش التركي على هذه الحال منذ تأسيس الجمهورية، فنفذ أربعة انقلابات عسكرية ناجحة “لحماية” هذه القيم ـ بحسب ادعائه ـ إلى جانب محاولة انقلاب فاشلة في عام 2016 انتهت بهزيمته. وقد أضعفت هذه السلسلة الطويلة من الأحداث دوره السياسي تدريجيا، وأعلنت نهاية عصر الانقلابات العسكرية، وعززت مركزية صنع القرار السياسي في الرئاسة بعد دستور عام 2017، الذي أسس للجمهورية التركية الثانية بقيادة رجب طيب أردوغان.

تركيا والنادي المسيحي

كانت أفكار أتاتورك ورفاقه في الجمهورية التركية الأولى مبنية على الاعتقاد بأن الحضارة الإسلامية فشلت في مواكبة الغرب وأن هذه الحضارة ـ من خلال قيادتها العثمانية ـ لا تستطيع أن تتطور مع الحفاظ على سلامة الإمبراطورية واستقلالها. ونظراً للموقف الجيوسياسي الذي تتمتع به تركيا، فإنها لم تكن لتتحمل العزلة، وكانت في احتياج إلى التوجه نحو الخارج، الأمر الذي أدى إلى تفضيل أتاتورك للغرب “المتقدم” والسعي إلى السير على خطاه.

ولكن هذا المسار لم يحقق النجاح المأمول، حيث طغت الخسائر التي تكبدتها على أي مكاسب. وواجهت تركيا صراعات سياسية وعرقية داخلية، وخاصة مع الأكراد، وانقلابات عسكرية متتالية، وتدهور الوضع الاقتصادي. وتغافل مؤسسو الجمهورية عن أن طبيعة فرنسا الكاثوليكية وروسيا الأرثوذكسية تختلف جذريا عن الإسلام وطبيعة الحكم فيه، إلى جانب خصوصيات أحكامه وتشريعاته، وعلاقة المسلمين بدينهم، ووجهات نظرهم حول الهوية والدولة. علاوة على ذلك، أدى هذا التحديث القسري إلى تشويه الثقافة في تركيا، حيث حاولت النخبة ذات الميول الغربية في منطقة “روميليا” تقليد الغرب في المظهر وليس الجوهر، بينما حافظ الشرق الأناضولي على عاداته وتقاليده التركية الإسلامية في حالة من العزلة عن الغرب.

لقد بذلت تركيا كل ما في وسعها للتكامل مع الغرب، حتى أنها دفنت تاريخها ونفت هويتها لكي تصبح جزءاً من أوروبا. كما امتنعت عن إثارة قضايا الهوية الإسلامية لتجنب الحساسيات، على أمل أن تحظى بفضل موقعها وسكانها بالدعم الغربي الكافي لتحديثها وازدهار شعبها.

لقد أدرك الأتراك، من خلال التجربة، منذ أوائل سبعينيات القرن العشرين أن توجههم الغربي لن يعطي النتائج التي يطمحون إليها، وأن كل ما يريده الغرب من تركيا هو أن تعمل كحاجز جغرافي بينه وبين الاتحاد السوفييتي، ثم روسيا، وكذلك العالم العربي ومشاكله، وتأمين حرية الملاحة والتجارة الدولية في المضائق، وخدمة المصالح الغربية باستخدام جغرافيتها الاستراتيجية في مقابل بعض المنح والمساعدات، وربما بعض الاستثمارات الاقتصادية الجيدة، دون أن تسعى إلى أكثر من ذلك.

ولقد أدرك الساسة الأتراك رفض الغرب لهم من خلال تجارب وممارسات مختلفة. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وإصرار تركيا على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أصبح رد الفعل الغربي سلبياً بشكل صريح. ومن الدروس الجديرة بالملاحظة بالنسبة لشعوب المنطقة أن تركيا، التي نبذت تاريخها ونأت بنفسها عنه، ظلت في نظر الغرب دولة إسلامية، وامتداداً طبيعياً للإمبراطورية العثمانية ذات الثقافة الشرقية. وقد وصل هذا التصور إلى الفاتيكان، أعلى ممثل للكاثوليك في العالم، حيث صرح البابا السابق بنديكت السادس عشر صراحة في برقية سرية إلى وزارة الخارجية الأميركية، سربها موقع ويكيليكس الشهير، برفضه المطلق ـ شخصياً وبصفته بابا ـ لوجود دولة إسلامية داخل الاتحاد الأوروبي، وحث المسؤولين الأميركيين على نصح تركيا بالسعي إلى تحالف إسلامي بدلاً من ذلك. وعلى نحو مماثل، أشار جيوفاني لايولو، أمين العلاقات الخارجية في الفاتيكان، إلى أن “انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يضعها والاتحاد في مأزق سياسي واجتماعي وثقافي صعب للغاية، لأن هذا الاتحاد هو في الأساس نادٍ مسيحي”. وفي أعقاب ردود الفعل العنيفة ضد هذه التصريحات، نفى الكاردينال لايولو هذه التصريحات في وقت لاحق، مدعياً ​​أن “الفاتيكان ليس له علاقة بهذه المسألة”.

ولم يتوقف الرفض عند الفاتيكان؛ إذ رفضت النمسا بشدة عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي على أساس أن انضمام عضو جديد يتطلب موافقة إجماعية من جميع الأعضاء الحاليين، مبررة رفضها بالتذكير بحصار فيينا مرتين من قبل القوات العثمانية في عامي 1529 و1683. ورغم مرور خمسة قرون على هذه الحروب، ورغم ابتعاد تركيا عن تاريخها وماضيها، ظل الغرب يذكرها بالماضي الذي ترغب في نسيانه. ولهذا السبب صرحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بوضوح خلال الانتخابات البرلمانية الألمانية في عام 2017 بأنها تعارض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وهو الموقف الذي كررته فرنسا في عهد ساركوزي وماكرون، اللذين عرضا على تركيا شراكة اقتصادية دون عضوية الاتحاد الأوروبي.

التحول الطفيف لتركيا نحو الشرق

يعتقد البعض أن تحول تركيا نحو الشرق، وتحديداً العالم العربي والإسلامي وأفريقيا، بدأ مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002، لكن هذا الرأي غير صحيح؛ فقد سبق للعلمانيين الأتراك أن واصلوا هذا التحول في منتصف سبعينيات القرن الماضي من خلال إعادة تقييم علاقتهم بإسرائيل والانفتاح على الدول العربية. وأصبح هذا الاتجاه أكثر وضوحاً عندما تولى تورغوت أوزال منصب رئيس الوزراء في عام 1983، تحت شعار “لا نريد المنح والهدايا؛ نريد التجارة والاستثمارات”. وأدرك أن الأمل ضئيل في تكامل تركيا مع الغرب والحاجة إلى تحسين العلاقات مع الشرق إلى جانب الحفاظ على العلاقات التجارية مع الغرب لتمكين تركيا من النهوض والتصالح مع ماضيها وحاضرها.

ولقد حاولت تركيا التصالح مع العالم العربي، وعندما سنحت لها الفرصة، أكدت صدق نواياها بمساعدة مصر في قضية التحكيم الدولي لاستعادة طابا. وكان من الأمثلة على حسن النوايا هذه مبادرة رئيس الوزراء سليمان ديميريل في ذلك الوقت بتقديم الوثيقة الحاسمة التي حسمت النزاع على ملكية طابا لصالح مصر من الأرشيف العثماني لاتفاقية ترسيم الحدود المصرية العثمانية لعام 1906.

ولم تتوقف تركيا عند التقارب مع العرب، بل سعت أيضاً إلى الاستفادة من انفتاح الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن العشرين، المعروف باسم “البيريسترويكا”، من خلال تعزيز العلاقات الوثيقة مع دول آسيا الوسطى الناطقة بالتركية (أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وقيرغيزستان)، بالإضافة إلى أذربيجان وإيران. وخضع الاقتصاد التركي لتحولات ليبرالية كبيرة تصالحت مع القيم الإسلامية، إلى جانب تحالف أوزال مع فتح الله غولن، مؤسس حركة غولن.

الإسلام الفكري التركي

يعتقد البعض أن ظاهرة الإسلام السياسي سواء من خلال مجموعات سرية “سلمية” تسعى إلى السلطة أو من خلال الصراع المسلح هي تطور جديد ظهر بعد سقوط الخلافة العثمانية. إلا أن دراسة التاريخ السياسي للمسلمين تكشف عن عدم دقة هذا الاعتقاد؛ فقد بدأ الصراع منذ وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وتجلى ذلك في اجتماع السقيفة الشهير عام 632م، والذي خلق انقساماً عمودياً في الإسلام منذ تلك اللحظة فصاعداً. فقد توفي النبي دون أن يشير إلى كيفية إقامة الدولة، ولم يترك وصية بشأن الدولة أو يتبنى لقباً سياسياً؛ وبالتالي فلا توجد آية واحدة في القرآن تتحدث عن “الدولة الإسلامية” أو خصائصها. وبالتالي فقد اعتبرها البعض مجرد إمارة تدير شؤون المسلمين الدينية. فقال الأنصار: “منا إمام ومنكم إمام”، بينما اعتقد بقية العرب أن السيادة الدينية تنتهي بإتمام الرسالة، وأن كل جماعة بشرية تؤمن بالإسلام تستطيع أن تدير شؤونها كما تراه مناسباً. ولقد كان هؤلاء في الغالب من يطلق عليهم وصف “المرتدين”. ويعتقد آخرون أن الإسلام لم يأت لإقامة دولة، بل كان ديناً ونبوة، أرسى النبي أسسها، مع تفاصيل محددة يديرها أئمة معصومون من أهل بيته، وهم الأكثر تأهيلاً لتفسير وشرح رسالته. وقد اعتنق الشيعة الأوائل هذا الرأي، ولم يتحدثوا في البداية عن الإمامة السياسية إلى جانب الأمور الدينية. وفي الممارسة العملية، حكم علي بن أبي طالب وحده بين أفراد أسرة النبي لبضع سنوات مليئة بالصراعات والاضطرابات، مما أدى إلى ظهور مجموعات مختلفة لا يمكن سردها جميعاً هنا. ومن أبرز هذه المجموعات الخوارج، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم “أهل الإيمان”، مؤكدين أن “الحكم لله وحده”، إلى جانب مجموعات شيعية مختلفة، والحركة العباسية السرية، وحركات أخرى.

كانت الدولة العثمانية منذ نشأتها دولة تتميز بالتنظيمات السرية، وقد تكاثرت هذه التنظيمات إلى حد لا نستطيع أن نحصيه إلا في كتاب. وقبل سقوطها بسنوات ظهرت داخلها تنظيمات دينية سرية، أو ما يمكن أن نطلق عليه جماعات الإسلام السياسي في المصطلحات الحديثة. وقد وجدت هذه الجماعات داخل العاصمة إسطنبول وغيرها من المدن الكبرى، وكان أبرزها “حزب الحرية الوطني” الذي أسسه جمال الدين الأفغاني ورفيقه محمد عبده في القاهرة سنة 1875. وقد تأثر أحمد عرابي ورفاقه بهذه الأفكار بشكل كبير، وكانت الثورة العرابية في جوهرها انتفاضة “إسلامية سياسية” تسعى إلى حكم إسلامي معاصر. وأعتقد أن جماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر سنة 1928 لم تكن سوى تتويج لهذه الأفكار، قادتها نخب عثمانية هاجرت إلى مصر بعد استيلاء أتاتورك على تركيا. ولقد وجدوا في القاهرة ـ المركز الإسلامي المهم الذي احتضن الخلافتين الفاطمية والعباسية والأزهر الشريف ـ المكان المناسب لإقامة هذا التنظيم. وبحثت هذه النخبة عن شخصية شابة مفوهة قادرة على تعبئة الدعوة وقيادتها، وكان حسن البنا هو ذلك الشخص، الذي لم يكن أكثر من واجهة لهذا المشروع العثماني الجديد، وكانت مصر هي الأرض الأنسب لاحتضانه. وهناك أدلة عديدة تؤيد هذا الاعتقاد، ولعلنا نخصص لها مقالاً منفصلاً.

كانت أول جماعة إسلامية سياسية وفكرية في تركيا هي التي سعى إلى تأسيسها بديع الزمان سعيد النورسي، المولود سنة 1876 لأسرة كردية تركية، والذي سعى إلى المعرفة الدينية واستثمر سياسياً في إحياء روح جديدة في جسد الدولة العثمانية المحتضر. وفي سنة 1911 ألقى نورسي خطاباً مطولاً في الجامع الأموي بدمشق، عرض فيه جوهر أفكاره السياسية والاجتماعية والدينية، بعنوان “الخطبة السورية”. وشكل فرقة من الثوار لمحاربة الروس في القوقاز أثناء الحرب العالمية الأولى، وسعى إلى إنشاء جامعة إسلامية في تركيا، حيث لم يكن هناك ما يعادل الأزهر في القاهرة، أو الزيتونة في تونس، أو القرويين في فاس، أو المدرستين النظامية والمستنصرية في بغداد. وعلى الرغم من حكم العثمانيين لأكثر من ستة قرون، إلا أن تركيا كانت تفتقر إلى جامعة إسلامية كبرى. لكن مشروعه لم يتحقق بسبب قيام الجمهورية التركية التي حظرت التعليم الديني بشكل كامل. وعلى إثر هذه الصدمة، حدث تحول كبير في أفكار النورسي، فأطلق على نفسه اسم “النورسي الجديد”، فطرح القديم جانباً، وتبنى شعار “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”. ورأى النورسي أن حل أزمة العالم الإسلامي أمر مستحيل من خلال العمل السياسي أو الاستيلاء على السلطة، لأن الأزمة السياسية نتيجة للأزمات الإسلامية المعاصرة، وليست سبباً لها. والحل يكمن في إحياء روح هذا الجسد المحتضر من خلال التعليم الديني القائم على التجديد والابتعاد عن التقاليد الجامدة الموروثة. وقد كرس النورسي نفسه لكتابة أفكاره التجديدية في الإسلام، والمعروفة باسم “رسائل النور”، والتي قدم من خلالها مشروعاً فكرياً شاملاً بعنوان “إنقاذ العقيدة وخدمة القرآن”. وتوفي النورسي عام 1960، تاركاً وراءه إرثاً فكرياً دينياً تبنته العديد من الحركات الصوفية التربوية التي لا تنخرط في السياسة.

كانت حركة كولن التي قادها فتح الله كولن، المولود سنة 1941 في إقليم أرضروم بشرق تركيا، حتى وقت قريب، ثاني أكبر حركة إسلامية في تركيا. وقد تأثر كولن بشكل كبير بأفكار النورسي وأعاد إحياءها من خلال العمل على الأرض. وتركزت فلسفته على نظرية “الإسلام الاجتماعي”، مستمداً من تعاليم النورسي في “رسائل النور”، ومؤكداً على الحاجة إلى التعليم الروحي داخل المجتمع. وتبنى كولن نموذج العمل الاجتماعي اليسوعي الكاثوليكي، فأنشأ مبادرات صحية وتعليمية شملت التعليم الديني والعلماني، مع خدمة الفقراء والمحتاجين. واستلهم كولن من الحركة البروتستانتية البيوريتانية لبناء مجتمع اقتصادي قوي داخل جماعة مغلقة ومنضبطة، وتغلغل في المؤسسات الحكومية وقطاعات الأعمال والأحزاب السياسية، دون أن يتحول إلى حزب بل يحول الحركة إلى فكرة منتشرة في جميع أنحاء الدولة والمجتمع. لقد كان تركيزه الخارجي منصبا على المسلمين الأتراك فقط، ساعيا إلى إرساء قومية تركية إسلامية، ووضع تركيا كمركز للقومية التركية في العالم، وربط دول آسيا الوسطى، والمجتمعات المسلمة في حوض الفولجا والقرم في روسيا، ومسلمي تركستان الشرقية في الصين في هذه الحركة لتنمية قيمهم الإسلامية ومشاعرهم الوطنية المرتبطة بالوطن الآمن تركيا. وبذلك حققت تركيا توسعا خارجيا خفف من عزلتها، وعوضت عن فشل مشروع أتاتورك في الاندماج في النظام الغربي، وحصلت على دعم غربي قوي لمبادراتها في مناطق ذات قيمة استراتيجية. ومن خلال هذه الحركة، بمساعدة الدولة التركية التي تقف وراءها، وصلت تركيا والحركة إلى أهدافهما في التوسع دون استفزاز الغرب، وخدمة مصالحه بشكل فعال وضرب خصميه الرئيسيين، روسيا والصين، والمساس بالوحدة الداخلية لكلا البلدين. وبالتالي، حققت تركيا أهدافها من خلال التفاهم مع الغرب وليس الخلاف معه.

لقد جمعت هذه الحركة مزيجا غريبا من الأفكار، واحتفظت بموقف مستمر من ترك العالم العربي لشؤونه الخاصة دون السعي إلى ممارسة النفوذ التركي هناك، بسبب خصائص مختلفة للإسلام التركي عن الإسلام العربي، فضلا عن إدراك الأهمية الاستراتيجية الكبيرة للمنطقة العربية للغرب -وإسرائيل في قلبها- وفهم أن السعي إلى التأثير عليها من شأنه أن يؤدي إلى مشاكل لا نهاية لها لتركيا والنتيجة الحتمية للفشل. في المقابل، وحد مشروع الحركة أوروبا والغرب في دعم تركيا وتحقيق طموحاتها. هنا أيضا تكمن قرينة مهمة توضح لماذا دعمت روسيا والصين أردوغان واحتفت بانتصاره على حركة غولن، حيث أدركتا نواياها والتهديد الذي تشكله لأمنهما. في غضون ذلك، يمكن فهم احتضان الولايات المتحدة النسبي لغولن، ورفضها التخلي عنه حتى وفاته في 20 أكتوبر 2024، على الرغم من مطالب أردوغان الملحة بتسليمه، من خلال ما تراه المؤسسات الأمنية والسياسية الأمريكية من مزايا يمكن تحقيقها من هذه المجموعة.

إن الجماعة الإسلامية السياسية الأساسية هي التي أسسها نجم الدين أربكان، المولود عام 1926 في ولاية سينوب في أقصى شمال تركيا. وكان أربكان أول من انخرط في السياسة وعبر عن ميوله الإسلامية عندما تحالف مع أتباع حركة النورسي عام 1970 لتأسيس حزب النظام الوطني. وبعد عامين أسس حزب الخلاص الوطني بعد حل حزبه الأول. وفي الانتخابات البرلمانية عام 1974 فاز بخمسين مقعداً، مما مكنه من المشاركة في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري، الذي أسسه أتاتورك وتبنى العلمانية، حيث أصبح نائباً لرئيس الوزراء في عهد بولنت أجاويد. وبسبب الإجراءات القانونية ضد الحزب والتصورات داخل المؤسسة العسكرية التركية بأنه يهدد “القيم العلمانية”، تم حظره مرة أخرى. أسس حزب الرفاه في عام 1993 ووصل إلى رئاسة الوزراء في عام 1996، ثم استقال في العام التالي بعد “انقلاب ناعم” أطلق عليه “انقلاب المذكرة”، وهي مذكرة قدمها القادة العسكريون إلى الرئيس ومجلس الأمن القومي، والتي صدق عليها البرلمان بسبب مخاوف بشأن آراء الحزب التي تشكل تهديدًا للعلمانية الحكومية. بعد ذلك، أسس حزب الفضيلة في عام 1998، والذي تم حله قضائيًا أيضًا. وأخيرًا، في عام 2001، أسس حزب السعادة، الذي لا يزال يعمل اليوم تحت قيادة “تميل كرامولا أوغلو”. انشق أردوغان وجول وداود أوغلو عن هذا الحزب، وأسسوا حزب العدالة والتنمية في عام 2001، الذي كان الحزب الحاكم منذ عام 2002 حتى الآن.

خاتمة

تأسست الجمهورية التركية عام 1923 على اعتقاد مفاده أن حل أزمة تركيا يكمن في التخلي عن الخلافة والقيم الإسلامية والابتعاد عن التاريخ وتبني هوية غربية، مع تفسير غريب للعلمانية يقوم على العلمانية الفرنسية المتطرفة، بهدف القطيعة الكاملة مع الماضي. وفي نهاية المطاف، أدرك القادة الأتراك سذاجة هذه الأفكار ــ وإن كان ذلك بعد فوات الأوان ــ بعد أن خسرت تركيا الكثير من الوقت والجهد، وتورطت في صراعات داخلية وانقلابات عسكرية أعاقت تقدمها.

منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، سعت تركيا تدريجيا إلى التصالح مع ماضيها والعودة إلى هويتها، وقد واجهت هذه المحاولات عقبات وفشلت في بعض الأحيان. ومع فشل المشروع الغربي والرفض المجتمعي للعودة إلى نموذج الحكم الديني أو نظام الخلافة البائد، وعجز أي من الطرفين عن حسم الصراع، نشأ إجماع جديد على نسخة معدلة من العلمانية ــ نسخة أقرب إلى الفهم الصحيح البعيد كل البعد عن المفهوم المتطرف القسري الأولي. وفي الوقت نفسه، أدرك التيار الإسلامي أن الإسلام دين وليس أيديولوجية سياسية؛ وأن تطبيقه مسؤولية فردية على كل مسلم، بشرط أن يتمتع بحرية الاعتقاد الكاملة. لقد مضى عصر التطبيقات القسرية، وتطور التيار الإسلامي التركي بخصائصه الفريدة، كما تجلى ذلك في دعوة أردوغان المصريين خلال زيارته لمصر عام 2011 إلى اعتناق العلمانية بعد ثورة 25 يناير، معتبرا إياها منطقا أساسيا للدولة الحديثة، وزيادة الحرية الفردية في الممارسة الدينية على عكس المفاهيم الخاطئة الشائعة، ثم تقديم النصح لجماعة الإخوان المسلمين في مصر بعد وصول محمد مرسي إلى السلطة، ونفيه أي تناقض بين الإسلام والعلمانية في مقابلته مع العربية عام 2017، مؤكدا أن العلمانية هي نهج حزب العدالة والتنمية، وأنه حاول شرح معناها للإخوان، موضحا أنها لا تعني عدم التدين.

يمكن تصنيف الإسلام الفكري في تركيا إلى أربعة تيارات رئيسية:

الحركات الصوفية: يبلغ عدد أتباع هذه الحركات الملايين، وأبرزها الطريقة النقشبندية. وتفتقر هذه الحركات إلى حزب سياسي، حيث يمتنع قادتها وأتباعها الرئيسيون عن الترشح في الانتخابات، كما يفتقرون إلى الطموحات السياسية. وهم لا يعملون إلا ككتلة تصويتية مهمة، حيث يدعمون الأحزاب ذات التوجه الإسلامي منذ سبعينيات القرن العشرين للحصول على الحريات الدينية. وهم يؤمنون بالحكم العلماني، ويدعمون علمانية تركيا بالمعنى التقليدي، بعد أن عانوا من إغلاق محافلهم والحظر المفروض على ممارساتهم، حيث تم نفي العديد من قادتهم في المقام الأول إلى ألمانيا وهولندا وشمال قبرص ودول عربية مختارة. وقد اعتبر هذا الوضع غريبًا وشاذًا، حيث وجد رجال الدين المسالمون الحرية في دول غير إسلامية بينما حُرموا منها في وطنهم تركيا؛ وبالتالي، لعبت هذه الحركات دورًا مهمًا في التصويت لحزب العدالة والتنمية.
الإسلام الاجتماعي: ممثلا بحركة كولن بزعامة فتح الله كولن، والتي كانت متحالفة مع أردوغان حتى نشأ الصراع بينهما بعد ما يسمى بالربيع العربي بسبب الخلافات في التوجهات الخارجية كما ذكرنا سابقا. وقد شكلت هذه الحركة بمؤسساتها التجارية والاقتصادية والطبية والخدمية، وأتباعها في كل أنحاء تركيا والعاملين في كافة أجهزة الدولة، كتلة انتخابية كبيرة وقاعدة عريضة داخل المجتمع التركي.
الإسلام التربوي: يتمثل في حركة النورسي التي أسسها بديع الزمان سعيد النورسي. ينتمي أغلب الزعماء الدينيين ورجال الفتوى والدعاة الدينيين وأئمة المساجد في تركيا إلى هذه الحركة، وهم يفتقرون إلى النشاط السياسي، ويركزون بدلاً من ذلك على الإثراء التعليمي والديني الإسلامي. وأولوية هؤلاء هي حماية الحريات الدينية، بعد أن عانوا من فترات صعبة من الاضطهاد أثناء الحكم العسكري؛ وبالتالي، فإن أصواتهم تذهب عادة إلى الأحزاب ذات التوجه الإسلامي.
الإسلام السياسي: ويمثله حزب العدالة والتنمية، وحزب السعادة، وحزب المستقبل، والدعوة الحرة. وكل هذه الأحزاب تمارس نشاطها السياسي وتعلن تمسكها بالعلمانية كمنطق يحكم الدولة التركية، وتعتبرها غير قابلة للتفاوض. وكان نجم الدين أربكان مؤسس هذه الظاهرة السياسية، التي تهدف إلى أن يكون للحزب أيديولوجية ثقافية إسلامية وهوية أخلاقية متجذرة في القيم الإسلامية، واحترام تاريخ الدول الإسلامية التركية، وخاصة الدولة العثمانية، وتوجيه السياسة الخارجية نحو مزيد من التعاون مع الدول ذات الأغلبية المسلمة مع تبني قضايا المسلمين في أجندة الدولة التركية.
الإسلام السياسي القومي: تعمل جميع أحزاب الإسلام السياسي التركية باستمرار على رفع مكانة القومية التركية داخل تركيا وفي جميع أنحاء العالم، وتضع القومية قبل الإسلام، حيث يعمل الأخير على تعزيز القومية التركية ورفعها وليس العكس. ومع ذلك، تظهر بعض الأحزاب ميلًا نحو الفاشية في وجهات نظرها بشأن القومية التركية، وتروج لسردية “تفوق” العرق التركي وهيمنته على جميع الشعوب الإسلامية. وتشمل هذه الأحزاب حزب الاتحاد العظيم، وحزب الرفاهة الجديد، وحزب الطريق القومي.

الملاحظة النهائية

قد تكون هناك روابط فكرية وأيديولوجية طبيعية بين جماعات الإسلام السياسي التركية وجماعة الإخوان المسلمين، ولكن هذا لا يعني أنها كيان واحد أو أن الأتراك جزء من التنظيم. فلا علاقة بين الإخوان المسلمين والإسلاميين الأتراك في التجربة أو السياق أو مراحل التطور. والدولة التركية لا تشبه بأي حال من الأحوال الدولة العربية ولا تجربة الإخوان المسلمين في مصر وبقية العالم العربي. وبالتالي فإن الادعاء بأن أردوغان عضو في جماعة الإخوان أو أن حزب العدالة والتنمية يمثل الإخوان في تركيا نابع من حرب الدعاية في خضم الصراع الأيديولوجي والسياسي من منتصف عام 2013 إلى عام 2022.

ولعلنا نحتاج إلى استكشاف أصول جماعة الإخوان المسلمين في مصر، هل كانت فكرة مصرية عربية أم فكرة تركية عثمانية عبر عنها ممثل مصري مثل حسن البنا؟ فضلاً عن ذلك، هل كان الإخوان يهدفون إلى استغلال نجاحات حزب العدالة والتنمية لتسويق أنفسهم باعتبارهم أحد امتداداتهم، والإيحاء بأن إنجازات تركيا سوف تنتظر الدول العربية إذا اختارت شعوبها الإخوان في الحكم؟ وعلى العكس من ذلك، ربما كان أردوغان ليستغلها للترويج للمنتجات التركية، وتحويل المنطقة العربية إلى سوق استهلاكية كبيرة للسلع التركية وتحقيق مكاسب اقتصادية. والواقع أن العلاقة بين الطرفين تظل في جوهرها علاقة منفعة وفائدة متبادلة، فضلاً عن الارتباط العاطفي، على غرار تلك التي تتشكل بين الأحزاب الشيوعية أو اليمينية المتطرفة في الغرب.

صخري محمد

بكالوريوس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالإضافة إلى درجة الماجستير في دراسات الأمن الدولي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights