مقالات

عامر شماخ يكتب: الحصادُ المُرُّ لانقلابِ يوليو 1952 [1/ 3]

بعد رحيل المحتل الغربي عنها بدءًا من ثلاثينيات القرن الماضي، اُبتُليت منطقتنا العربية بظاهرة الانقلابات العسكرية سيئة السمعة؛ حيث تحتل المرتبة الثانية بعد أفريقيا السوداء فى قائمة المناطق الأكثر شهودًا لهذه الكارثة، والأكثر تضررًا منها على المستويات كافة، ولا تزال دولٌ من عالمنا المنكوب، ونحن في الألفية الثالثة من القرن الحادي والعشرين، مسرحًا للظاهرة التي كادت تختفي من العالم، عُرضة لاغتصاب السلطة؛ إذ من بين عشرة انقلابات وقعت في العقد الأخير حول العالم وغيّرت المسار السياسي لبلدانها جاء منهم ثلاثةٌ عربًا؛ اثنان في السودان في عامي 2019، 2021، وواحد في مصر عام 2013.

من بين عشرات الانقلابات العربية كان لبعضها التأثير الأكبر، والقدرة على إحداث تحوّل حاد فى المسارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادها، وتشكيل خطر على الديمقراطية والاستقرار، على رأسها انقلاب (بكر صدقي) في العراق عام 1936؛ فما من انقلاب وقع فى عالمنا العربي إلا وعلى (صدقي) كفلٌ منه؛ ذلك بأنه أول من استنّ الانقلاب على الأنظمة والحكومات الشرعية. يليه في التأثير انقلاب العسكر في مصر في يوليو عام 1952؛ إذ أطاح هذا الانقلاب بكل القوانين والأعراف، وأشعل الصراعات المجتمعية، وكرّس الطغيان، وارتكب العديد من الخطايا والأكاذيب، وقد كان لمكانة مصر كقاطرة للعالم العربيّ وطموح قادة هذا الانقلاب، وهم من فئة الشباب، القدرة على التأثير في قادة جيوش العرب، التي تم بناؤها حديثًا، للسير على خُطاهم، فأدارت بذلك المجالس العسكرية العديد من البلدان، وحكمتها بالحديد والنار، وجعلت البندقية فى مواجهة صناديق الاقتراع.

وقع هذا الانقلاب فجر يوم الأربعاء 23 من يوليو عام 1952، قام به مجموعة ضباط مصريين أطلقوا على أنفسهم اسم (الضباط الأحرار) ضد النظام الملكي، سيطروا خلاله على المرافق الحيوية بالقاهرة، واعتقلوا عددًا من قادة الجيش، وأجبروا الملك (فاروق) على التنازل عن العرش لولى عهده الأمير (أحمد فؤاد)، كما أجبروه على مغادرة البلاد في غضون ثلاثة أيام.

وقد شكّل هؤلاء الضباط ما سُمى بـ(مجلس قيادة الثورة) من (14) ضابطًا برئاسة اللواء (محمد نجيب)؛ لإدارة شئون البلاد لحين نقل السلطة إلى المدنيين حسب وعودهم، وهؤلاء الضباط الأربعة عشر هم قادة تنظيم سرى داخل الجيش أسسه في وقت سابق البكباشي (جمال عبد الناصر). وقد كرّس هذا الانقلاب لسلطوية عسكرية لا زالت تحكم مصر، باستثناء سنة واحدة هي التي حكم فيها الدكتور (محمد مرسى)، أول رئيس مدني منتخب.

لم تمض أيام على وقوع الانقلاب حتى ظهرت محاولات البكباشي (عبد الناصر) للانفراد بحكم مصر والاستيلاء على السلطة، كانت أولاها محاولة إبعاد جماعة الإخوان المسلمين عن الساحة السياسية رغم كونها الشريك الأكبر فى نجاح الحركة، تخطيطًا وتنفيذًا، ففي 28 من يوليو عام 1952 جرى أول لقاء بين مرشد الجماعة (حسن الهضيبي) و(عبد الناصر)، أنكر فيه دور الإخوان وضباطهم في نجاح الحركة؛ إذ قال للمرشد بعدما صافحه: «قد يقال لك إن احنا اتفقنا على شيء، إحنا لم نتفق على شيء»، فردّ عليه المرشد قائلاً: «اسمع يا جمال، ما حصلش اتفاق، وسنعتبركم حركة إصلاحية، إن أحسنتم فأنتم تحسنون للبلد، وإن أخطأتم فنوجه لكم النصيحة بما يرضى الله». فلما انصرف (عبد الناصر) قال المرشد لإخوانه الذين حضروا اللقاء: «الرجل ده مافهش خير، ويجب الاحتراس منه».

كما حرص الانقلابيون على توصيل رسالة للشعب مفادها: حتمية الرضا بالأمر الواقع وقبول حكمهم السلطوي دون معارضة أو نقد وإلا كان الإعدام مصير من يفعل ذلك. إذ فى الشهر التالي للانقلاب وتحديدًا يوم 12 من أغسطس عام 1952 اندلعت مظاهرات عارمة فى شركة الغزل والنسيج بكفر الدوار للمطالبة بحقوق العمال، تدخلت قوات الجيش لفضها، وأسفرت المواجهة عن مصرع ثمانية جنود وخمسة عمال، فقام الانقلابيون بحملة اعتقالات واسعة فى صفوف الشيوعيين، وشكّلوا محكمة عسكرية قضتْ بإعدام اثنين من العمال، وأحكام بالسجن لأحد عشر آخرين، وتم تنفيذ حكم الإعدام في (خميس والبقري) في 7 من سبتمبر عام 1952؛ (لمنع تكرار ذلك) – من وجهة نظر عبد الناصر، وزير الداخلية حينها- كما جاء في مذكرات اللواء (محمد نجيب).

فى يوم الأربعاء (7 من يناير عام 1953) صدر قرار بحلِّ جميع الأحزاب السياسية فى مصر، عدا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت جمعية وليست حزبًا، أراد عبد الناصر أن ينتهى من الأحزاب أولاً ثم يتفرغ للإخوان بعد ذلك، وهو يعلم حجمهم وقوتهم التي ربما استعصت عليه قبل حل باقي الأحزاب. وفى يوم 23 من يناير 1953 صدر قرار آخر بإنشاء ما يُعرف بـ(هيئة التحرير) كحزب سياسي أوحد في البلاد وظهير شعبي للانقلابيين، ولمّا فشلت تلك الهيئة في منافسة الإخوان صدر قرار في يوم 12 من يناير عام 1954 بحل الإخوان، وفى يوم 15 من الشهر نفسه نشرت الصحف بيانًا صادرًا عن مجلس قيادة الانقلاب يتهم الجماعة باتصالهم بالإنجليز، وإقامة منظمات سرية في الجيش والبوليس، ومحاولة قلب نظام الحكم. قام (عبد الناصر) بعدها باعتقال الإخوان على مدار شهرين؛ حيث تم تجميعهم فى السجن الحربي ثم ترحيلهم إلى معتقل العامرية.

[يتبع].

عامر شماخ

كاتب صحفي مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى