عامر شماخ يكتب: «منفيونَ في أوطانِنا!!»
هذه للأسف حقيقة، لكننا نحاول الهروب منها ونقنع أنفسنا بأننا مواطنون كاملو المواطنة. الواقع يؤكد أننا -منذ أن حَكَمَنا العلماني الألباني (محمد على) عام 1805- منفيون داخل أوطاننا، محرومون من جميع الحقوق الإنسانية؛ إما بأيدي علمانيين أقحاح أو من بعدهم عسكر طغاة أداتُهم القوة ولغتُهم السلاح.
نعم، نحن والله معتقلون في سجن كبير، هو حدود الوطن، منذ ما يزيد على مائتي سنة، واشتدت الوطأةُ علينا في السبعين سنة الأخيرة، فلا فرق بيننا وبين المنفىِّ في جزيرة من جُزر البحار أو في معتقل مفتوح في جبل من الجبال، محرومون من الحركة والتنقُّل، ممنوعون من التعبير عن الرأي، نرضى بما يُقدَّم لنا فلا نعترض، نعانى كل معاني الغربة من الوحدة والحسرة والألم، ولا ندرى متى تنتهي هذه الغربةُ وذلك النفيُّ.
وكان من نتيجة هذا النفي الطويل، الممتد بطول وعرض أوطاننا المنكوبة، أن ضرب الجهل والفقر والمرض هذه الأوطان، وابتُليتْ بالتبعية المقيتة، للشرق تارة وللغرب تارة أخرى، وفشت فيها الطبقية والعزلة، وصار أهلها أسيادًا وعبيدًا، حكامًا ورعايا بلا أوطان.. لقد قتلوا فينا روح المقاومة والنخوة والحماسة، واستعبدونا استعبادًا مقنّعًا رغم أننا المُلَّاك وهم الأجراء.
والسؤال: هل نستحق هذا العقاب؟! نعم نستحقه. لأننا فرّطنا في حقوقنا، وآثرنا الصمت، وانبطحنا للطغاة، وجبُنّا عن مواجهتهم، فلما رأوا منّا ذلك فعلوا كما فعل الفرعون الأكبر بظنّهم أنهم ملكوا البلاد والعباد، ومع جهلهم وفسقهم صاروا لا يتورعون عن أي شيء فعلوه، فهم يجنون ثمار البلاد ويغتصبون خيرها، ويحيون ويميتون من يشاؤون، ويسرقون ويكذبون.. ثم لا يجدون من يعارضهم، فصارت لديهم قناعة بأنه لا إرادة لتلك الشعوب، وأنهم لا يُحاسبون ولا يُسألون عما يفعلون.
نحن الملومون إذًا بصمتنا وخوفنا وانبطاحنا، والعجيب أن الكون يتغير، والدنيا تتحرر، وإنسان اليوم غير إنسان الأمس، لكننا لا زلنا نائمين عن حقوقنا نغلق علينا بابنا مجترِّين أحزاننا وعجزنا، رغم أن العالم صار قريبًا منّا قرب بيوت القرية من بعضها، ورغم ما مرّ علينا من أحداث تؤكد أن هؤلاء الذين يحكموننا بالحديد والنار إن هم إلا نمور من ورق، وأن مأتاهم مما يظهرون من قوة وهيمنة.
نحن ضحايا العروش والجيوش، نحن الأجيال التي عاشت وماتت لا ترى إلا الفقر، ولا تسمع إلا أغاني الوطنية الكاذبة، أجيال نامت واستيقظت على الهزائم والكوارث، وألفت الاستبداد، وغنّت للمستبدين، وعشقت الطغاة.. لا شك أنها أجيال مُصابة بداءٍ نفسىٍّ عُضال، وآن لها أن تُعالج من هذا الداء، وأن تستمتع بما تبقى لها من أعمار، وإن لم تفعل هذا لنفسها فلتفعله للأجيال المقبلة، للأبناء ذوي المصير المجهول في ظل هذا الطغيان الذي ضرب أركان البلاد فخلّف مظالم لا حدود لها نزعت من أوطاننا البركة وأسلمتها للفقر والعوز.