عامر شماخ يكتب: وصايا مجرِّب في محبَّةِ النَّاس وكسبِ ودِّهم
حاورتُه في سر محبة الناس له، وإجماعهم عليه، ولجوئهم إليه في مسرّاتهم ومضرّاتهم. والرجل ليس ذا منصب رسمي، ولا مركز مالي، بل كل ما يملك وجه مضيء بالبِّشر، وقلب عامر بالإيمان، ورجلان تسعيان إلى المساجد وتمشيان في حاجة الناس، خفيض الصوت، قليل الكلام، لا يُغتابُ في حضوره أحدٌ.
قلت له: فشتْ فى الناس ظواهر جعلتهم ينكفئون على ذواتهم، وقد تفككت عرى المودة بينهم، فقلّتْ -من ثم- مروءتهم. كيف تحوّلت مجتمعاتنا من مجتمعات متكافلة إلى شراذم متطاحنة ليس بينها رحمة؟
قال: هذا بسبب غياب قيم الدين التي تضبط علاقة الحب بين البشر، وفيها صلاح الفرد والمجتمع، واطمئنان القلوب، وسَواءُ النفوس، وهى الدواء لكل الظواهر الشائنة كالأثرة والاستبداد والطمع. والمؤمن إن لم ينفع الناس فلا يضرهم، كما قال أحد الصالحين: «ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرُّه، وإن لم تفرحه فلا تغمُّه، وإن لم تمدحه فلا تذمُّه»، وهذا مصداق حديث النبي ﷺ: «المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن، يكف عن ضيعته، ويحوطه من ورائه».
قلت: وما الوسائل التي تساعد في إشاعة المحبة وإيجاد الثقة والمودة بين الناس؟
قال: هي أكثر من أن تعد؛ هي نفسها وصايا ديننا الحنيف الذي أمر بالإحسان في كل شيء، وقد جاء متممًا لمكارم الأخلاق، ومن تبعه فلن يضل ولن يشقى. وأُوْلى تلك الوسائل أن تُلِقى السلام على من عرفت ومن لم تعرف، والسلام هنا ليس فقط قولًا باللسان، بل عملًا بالجوارح، هدفه إسعاد الناس وتطهير دواخلهم، وهذا يحتاج إلى إخلاصٍ ونية، وعلى قدر الإخلاص تكون النتيجة. وإن الذي يسعى إلى إفشاء السلام بين الناس مترفعٌ بالتأكيد عن دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
قلت: لكن مثل هذه الأمور ربما تحتاج علمًا وإمكانات لا تتوافر لكل الناس.
قال: قيم الدين وأخلاقه تسع الجميع، وفى الخبر: «لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق»، وكلٌّ يعمل على شاكلته، وعلى قدر وسعه وطاقته، وما يفعلوا من خير فلن يُكفروه -أي لن يُحرموا أجره. لنسأل أنفسنا: ماذا فعلنا مع الجيران وقد أوصى بهم الدين مرارًا وشدّد النكير على المسيئين إليهم؟ وماذا فعلنا بوصايا الرسول في ضبط النفس وحفظ اللسان وكفّ الأذى عن الخلق؟ بل أين الرفق والرحمة اللذين دأب المعصوم ﷺ على التذكير بفضلهما فى مقابل النهى عن الفظاظة والغلظة؟
قلت: وما رأس مالك يا شيخنا الذي ربحت به كل هذه القلوب؟
قال: ربحتهم بفضل الله أولًا؛ فإن القلوب بين أصبعين من أصابعه -سبحانه- يقلبها كيف يشاء؛ ثم بالزهد مما في أيديهم، والبذل لهم قدر المستطاع، وفى كل عمل أجدد النية وأرفع أكفّ الضراعة، وقبل هذا وذاك أنهض لإصلاح ما بيني وبين ربى، وأسعى في صلة رحمي، وأجدُّ فى العفو والتواضع، والقصد في كل أمري، ولا أحرم نفسي من التنافس في الخير، وأنظر -في الدنيا- إلى من هم دوني فأحمد الله، ولا أحزن على ما فات، ولا أختال، ولا أفرح بما آتاني ولو كان في وزن الجبال.
قلت: ألا ترى أن تلك مثالية لا يستطيعها غالب الناس.
قال: كلٌّ يعمل حسب جهده، والدين رحب يسع الضعيف كما يسع ذا الهمة، إنما يشترط النقاء والإخلاص، ورُبَّ درهم سبق ألف درهم، ورب عمل لا يؤبه له في نظر الخلق يعدل عند الله أعمال ملايين البشر، المهم أن نصحح قبلتنا، ونعدِّل وجهتنا، وأن نسلك صراط الله المستقيم التى تقود إلى الخيرات جميعها.
قلت: بدأنا حديثنا بالظواهر السيئة التي تفشت في مجتمعاتنا. كيف الصلاح؟
قال: لِيَجُدْ كلُّ ذي زاد على من لا زاد له، ولِيَجُدْ كل ذي ظهر على من لا ظهر له، وليتقن كلٌّ منا عمله، وعلينا بالصبر فإنه شطر الإيمان، وما نُزع الصبر من أمة إلا غشيتها الأثرة وحب النفس، ومحبة الناس تكون بإلانة القول لهم، وبذل الهدية لإسعادهم، ومداراتهم، واحترامهم، وإنظار معسرهم، والاهتمام بأمرهم، قريبهم وبعيدهم، وأن يُحمل ضعيفهم، ويُجبر كسيرهم، ويرد شاردهم، واجتناب الظن بهم، والتجسس عليهم، وخفض الجناح لمن يستحقه منهم.
قلت: وصية أخيرة.
قال: كن عمليًّا، فقد سئم الناس الكلام وكرهوا القول، وبشِّر ولا تنفِّر، ويسِّر ولا تعسِّر، وانشغل بنفسك ولا تسلْ عما لا يعنيك، وليكن الذكر والدعاء سلاحك، فلا تتركهما ساعة.