مثلما كان يرجو استُشهد «يحيى السنوار»، الذي اختار لنفسه -منذ البداية- حياة المقاومة والشرف، فكان مُستهدفًا دومًا من العدوّ، شهيدًا يمشي على الأرض، لا يبالي بالأخطار العظيمة في سبيل تحرّر وطنه وكرامة أمته.. في مايو عام ألفين وواحد وعشرين استهدف الجيش الصهيوني منزله في منطقة «خان يونس»، إلا أنه نجا كون المنزل خاليًا، وفي الأسبوع التالي ظهر علنًا أربع مرات وهو يتجول في شوارع «غزة» ويلتقط الصور مع المواطنين..
وعقب عملية «طوفان الأقصى» استُهدف منزله مرة أخرى دون وقوع إصابات، كما استُهدف مكتبه في غرب القطاع، وبعد شهرين من هذا الاستهداف عاودت قوات الاحتلال تطويق ركام المنزل أملًا في العثور عليه.. إلى أنْ وافاه أجلُهُ هذه المرة، فرحل سيدًا متعاليًا، مقبلًا غير مدبر، راميًا العدو بعصاه حتى وهو يجود بنفسه وفي جراحاته العظيمة.
كان «السنوار» يمثل كابوسًا للمحتل الصهيوني، فهو في نظرهم رجلٌ مشبَّعٌ بكراهية «إسرائيل»، كما يتهمونه بأنه العقل المدبر لهجمات السابع من أكتوبر، وحسب محللين صهاينة فهو: صلب وعنيد للغاية، لا يمكنه التنازل أو الاستسلام.. استطاع زعزعة المحتل قيادة وشعبًا، ونجح في تغيير قواعد اللعبة معهم، يعمل ضمن خيارات واعية، كان متابعًا للمجتمع الصهيوني، مواظبًا على ما يصدر عن إعلامه، مطلعًا على الدراسات العبرية المختلفة، وهو ما انعكس على فهمه لثقافة هذا المجتمع، والتعرّف من ثم على خططه وإستراتيجياته.
قضّى الشهيد أربعة وعشرين عامًا داخل السجون والمعتقلات الصهيونية، اعتُقل لأول مرة عام اثنين وثمانين، وهو لا يزال طالبًا، وبقي رهن الاعتقال الإداري لمدة أربعة أشهر قبل الإفراج عنه، وفي عام خمسة وثمانين اعتُقل مجددًا لمدة ثمانية أشهر؛ لاتهامه بإنشاء جهاز استخبارات خاص بـ«حماس»، المعروف باسم «مجد»..
أما الاعتقال الأكبر فكان في يناير عام ثمانية وثمانين؛ حيث حكمت عليه محكمة عسكرية صهيونية في العام التالي بالسجن أربعة مؤبدات بلغت مدتها أربعمائة وستًا وعشرين سنة، بعد أن وُجهت له تهم اختطاف وقتل وتعذيب أربعة فلسطينيين متعاونين مع العدوّ، والمشاركة في تأسيس الجهاز العسكري الأول لحركة «حماس»، والذي عُرف وقتها باسم «المجاهدون الفلسطينيون».. في أكتوبر عام ألفين وأحد عشر تم التوصل إلى صفقة «وفاء الأحرار» أو ما عُرفت إعلاميًّا باسم «صفقة شاليط»، أُفرج بمقتضاها عن «السنوار» ضمن ألف وسبعة وعشرين أسيرًا فلسطينيًّا في سجون الاحتلال.
أربعة وعشرون عامًا قضّاها «السنوار» في الأسر لم تنل من قناعاته بقرب نيْل حريته، وإنهاء الاحتلال، ولم تغير إستراتيجيته في المواجهة مع العدوّ التي بناها من خلال معرفته العميقة بنفسية الصهاينة، فكان الهجوم المباغت في السابع من أكتوبر الذي قلب الموازين، وأطاح بعقيدة الحرب الصهيونية.. تجربة السجن أصقلت عقلية «السنوار»، وصاغت مفاهيمه على الطريقة التي أدارت بها «حماس» معارك طوفان الأقصى..
في سجنه قرأ كثيرًا، ونقد كثيرًا، ووضع أفكاره تلك في أبحاث مهمة، ألّف كتاب «المجد» استعرض فيه واقع المقاومة واستشرف مستقبلها، ووضع كتاب «حماس: التجربة والخطأ» كنقد ذاتي، ووضع روايته «الشوك والقرنفل» وهي قريبة من أدب السيرة الذاتية، وترجم كتابي «الشاباك بين الأشلاء» و«الأحزاب الإسرائيلية» لقراءة فيما وكيف يفكر العدو.
كأحد مؤسسيها، كانت حركة المقاومة الإسلامية «حماس» هي عشق وغرام «السنوار»، والتي ملكت عليه عقله ووجدانه، لمّا سأله محققٌ صهيونيٌّ إبان وجوده في المعتقل: لِمَ لَمْ تتزوج إلى الآن؟ قال: (لأن حماس هي والدي ووالدتي وزوجتي).. تعرّف «السنوار» على جماعة «الإخوان المسلمين» منذ صغره؛ ما أهّله أثناء دراسته الجامعية لترؤس «الكتلة الإسلامية»، الذراع الطلابي للإخوان.. عقب خروجه من السجن عام ألفين وأحد عشر فاز «السنوار» بعضوية المكتب السياسي للحركة، وتولى مسئولية الإشراف على الجهاز العسكري لكتائب «عز الدين القسّام»..
وفي الثالث عشر من فبراير عام ألفين وسبعة عشر انتُخب «السنوار» رئيسًا للمكتب السياسي لحركة «حماس» في قطاع «غزة»، وبقي في هذا الموقع إلى أن تم انتخابه بالإجماع مساء يوم الثلاثاء (السادس من أغسطس عام ألفين أربعة وعشرين) رئيسًا للمكتب السياسي للحركة بعد أسبوع واحد من استشهاد سلفه «إسماعيل هنية» على أيدى الصهاينة في العاصمة الإيرانية «طهران»؛ ليلحق بإخوته المجاهدين على درب الشهادة يوم السادس عشر من أكتوبر عام أربعة وعشرين.
وُلد «يحيى إبراهيم السنوار» في التاسع والعشرين من أكتوبر عام اثنين وستين في مخيم «خان يونس» جنوب قطاع «غزة»، لأبوين مهجّريْن عام ثمانية وأربعين من بلدة «مجدل عسقلان»، التي تقع شمالي قطاع «غزة» وقريبة منه.. تلقى «السنوار» تعليمه الأوّلي والمتوسط في مدارس المخيم، وأنهى دراسته الثانوية في مدرسة «خان يونس الثانوية للبنين»، ثم التحق بعدها بـ«الجامعة الإسلامية بغزة» ليحصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية..
رحم الله البطل المغوار، الزاهد البسيط، الشديد على أعدائه، الرحيم بإخوانه وأحبابه، وأعنِ اللهم من يخلفونه في طريق الجهاد، وحققْ بهم يا قويُّ يا عزيزُ النصرَ للأمة.