لكل مجتمع بشري عقل جمعي يتحكم في سلوك أفراده وفي طريقة تقييمهم لأنفسهم، وفي نظرتهم للأحداث من حولهم، وهذا العقل يمكن تصنيفه كسلطة خفية تتحكم بسلوك أفراد المجتمع وردود أفعالهم، فهو يكون منظومة القيم التي على أساسها يتشكل مفهوم الصواب والخطأ من الأقوال والأفعال، وليس بالضرورة أن يكون هذا العقل متوافقاً مع العقل الفردي لأفراد المجتمع، بل من الممكن أن يكون مصادماً ومتناقضاً مع معتقداتهم، فهو عقل ينتج عن الزخم الناتج من الترويج لمفاهيم محددة، فتتحول هذه المفاهيم لأعراف لا يقدر أفراد المجتمع على مخالفتها. فعقل المجتمع يصنع قيوداً وقوانين اجتماعية أقوى من القوانين التي تحكم بها المحاكم، بل إن قوانين المحاكم تُعد ضعيفة أمام سطوة هذا العقل.
عقل المجتمع يمكن تغيير طريقة تفكيره وتقييمه للأشياء والأحداث من حوله، ففي أوروبا وأمريكا مثلا -حتى وقت قريب- كان عقل المجتمع يحتقر الشواذ ويبغضهم وكان الإعدام هو عقوبتهم، ثم تغير عقل المجتمع وأصبحوا محل احترام وتقدير، لدرجة أن أصبح الاعتراض على الشذوذ هو الجريمة، ونتيجة لذلك تم تغيير القوانين لتسمح لهم بالزواج، والزنا الذي كان عندهم فضيحة وجريمة تغير عقل المجتمع ليصبح من حقوق الإنسان الطبيعية، وفي أمريكا كان ارتداء ملابس السباحة التي تلتصق بالجسد جريمةً يعاقب عليها القانون، أما اليوم فالتعري الكامل مسموح به في الكثير من المدن الأمريكية.
وفي السودان لم يكن عقل المجتمع السوداني يقبل أن تكون المرأة كالرجل، وكان يرى أن الحياة الطيبة للمرأة أن يكون لها زوج وبيت وأطفال، أما اليوم فقد أصبحت المرأة رجلا في تفكيرها وطموحاتها وسلوكها، تدرس مع الرجال وتصادقهم وتشتغل معهم وتغترب في دول الخليج وتبحث عن الزوج الذي يناسب مواصفاتها، والحقيقة إن التغييرات في عقل المجتمع السوداني أكبر من أن تحصى.
هناك عوامل تتحكم في عقل المجتمع وتحدد له رغباته وتطلعاته، ومن بين أهم هذه العوامل قادة المجتمعات أنفسهم، فلأنهم محط أنظار الناس في مجتمعاتهم بسبب أنهم مصدر القوانين والقرارات التي تؤثر مباشرة في حياة الناس فإن لهم حيزاً كبيراً في عقل مجتمعاتهم يجعل أقوالهم وسلوكياتهم لها تأثير كبير على الذين يسمعون أقوالهم، وهم يؤثرون كذلك عن طريق وسائل الإعلام التي تعد امتداداً مباشراً لهم، ولأن الإعلام الرسمي في العالم الآن كله متشابه، نجد أن العالم كله اليوم يشجع نفس اللعبة الرياضية،
ويلبس نفس الملابس ويأكل نفس الأكل ويسكن في نفس المساكن، والشعوب تتنافس، لأنها تريد نفس الأشياء ولها نفس الطموحات، فالإعلام الرسمي لأي دولة هو نفس إعلام الدولة الأخرى، الفرق فقط في القليل من الإضافات واللمسات التي تجعله يبدو وطنياً وخاصاً بتلك الدولة. ومن بين أهم الوسائل كذلك لتوجيه عقل جيل من الأجيال هي مناهج التعليم في المدارس، فمحتوى التعليم الذي يتلقاه الأطفال في صغرهم يؤثر فيهم طوال حياتهم.
الدولة الإسلامية هي التي يتم تشكيل عقل المجتمع فيها وفقاً لأخلاق الإسلام وتشريعاته، فكل ما يفعله الناس ويحتاجونه قابل للتشكيل والتبديل، يمكن أن تجعل الناس يمشون بلا ملابس ويشعرون أن هذا هو الأفضل، كالكثير من المدن الأوروبية التي تسمح بالتعري،
ويمكن أن تجعلهم يلبسون فوق الركبة أو تحت الركبة، ويمكن أن تجعلهم يغطون أنفسهم بالكامل، ويكونون سعداء، وكل ذلك بدون الحاجة لأي عقوبات، يمكن أن تجعل الناس يأكلون ما يريد، ويسكنون كما تريد ويتعاملون كما تريد، فما تزينه للناس كمجموعة يصبح عرفا لا يستطيعون كأفراد مخالفته حتى لو كانوا غير مقتنعين به،
فمن أقنع الناس بالتعري لم يحمل لهم سوطا، ومن أقنعهم بالغطاء الكامل لم يفعل ذلك، ولم يرد أن رسول الله عاقب امرأة لأنها لم تلبس ما أمرها الله به، ولكن ستكون هناك حاجة لجلد كل المجتمع إذا كانت عناصر بناء عقل المجتمع تجعله مجبرا على مخالفة ما أمر الله به.
إن الدولة الإسلامية ليست هي الدولة التي عندما تذكرها تذكر معها العقوبات الإسلامية، فهي ليست دولة غايتها العقوبات، بل هي دولة رحمة تبني عقل المجتمع وفقا لأخلاق الإسلام وشريعته، والعقوبات في أي تشريع هي وسائل تجريميه تهدف لتقبيح الفعل وتنفير الناس منه، فهي داعمة لفكرة بناء العقل وتوجيهه وليست غاية في حد ذاتها، فحد الزنا الذي يعاقب عليه الإسلام بالرجم يصعب إثباته، ولا تقطع يد السارق إلا في مبلغ يزيد عن النصاب وهو مبلغ كبير (جرام وربع الربع من الجرام ذهب أو ما يعادل نحو 48 دولارا)، وشارب الخمر لو شربها في بيته ولم يعلم به أحد لما تم جلده، وقد ورد عن رسول الله أنه قال «ادرأوا الحدود بالشبهات»،
فدولة الإسلام دولة حب وأخلاق عالية تسود فيها ثقافة الرضا وشكر النعمة، فالشكر والرضا ثقافة مثلما أن الشكوى والسخط ثقافة، وهي دولة أمن وأمان يندر أن تجد فيها سارقاً أو قاطع طريق، هي دولة يأتمن الناس فيها جيرانهم على أهلهم وممتلكاتهم، فقد أوجب وشدد الإسلام في الإحسان إلى الجيران، ففي الحديث «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
وفي الحديث «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره، ولأن يسرق من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره».
خلاصة القول إن الناس يحبون أن يشعروا بأنهم أحرار وأنهم قادة أنفسهم، وهذا ما تقوم عليه الدولة في الإسلام، فالدولة الإسلامية هي التي تقوم حكومتها ببناء عقل المجتمع فيها ليكون تفكيره وسلوكياته ورغباته موافقة للشريعة الإسلامية، وهذا أمر في غاية السهولة واليسر على من علم قواعد إدارة المجتمعات، ولكن {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}