د. محمد الأسطل يكتب: هل انتصرت غزة في معركة طوفان الأقصى أو لا؟ (2-2)


اعتدنا بعد كلِّ معركةٍ أو جولةٍ عسكريةٍ أن نسمع خلافًا حول سؤالٍ خلاصته: هل انتصرنا أو لا؟ مع أنَّ المقاومة في كل مرةٍ كانت تخرج بإنجازِ عددٍ من المطالب،
وتحقيق عددٍ من الشروط والمكاسب، وإجبار العدو على التوقيع عليها والخضوع لها،
ولكن في هذه المرة جاءت معركة طوفان الأقصى وقد سحق العدوُّ فيها كلَّ شيءٍ سحقًا حقيقيًّا،
فإذا كان الكلام في كلِّ معركةٍ من باب المبالغة والتوسع في الوصف فهو اليوم من باب الواقع.
وهذا يعني أنَّ السؤال له وجاهته الآن.
ولكن لما كانت أطراف الجواب متشعبةً وكانت هذه القضية محل جدالٍ ولغطٍ رأيت أن أجمع أطراف القول في مقالةٍ واحدةٍ مطوَّلة، ونكمل ما بدأناه في المقال السابق:
المرتكز الخامس: يتحدد النصر بالنظر لكامل الصورة لا لخصوص الخسائر:
وبيان هذا: أن المشهد يتركب من ربح وخسارة، وخيرٍ وضُرٍّ، وبلاءٍ وعطاء، فالذي لا يدرك من المشهد إلا الخسارة فتقييمه قاصر.
فالذي نزل بنا من الإبادة والسَّحق شيءٌ عظيم، وهو فوق الوصف، وما أحسب أنَّ الكاميرات مهما تعددت زوايا التصوير تستطيع أن تلتقط صورةً دقيقةً عنه، خاصة أنَّ ما يراه الواحد منا مُحمَّلٌ بالمشاعر؛ فالذي ذهب هو بيتك أو بيت أخيك أو قريبك أو صديقك أو من تعرف أو ابن حيك أو قريتك أو مدينتك أو بلدك، لكن كل ذلك رغم ضخامته وفظاعته إنما هو جزءٌ من المشهد.
ومعطيات المشهد كثيرةٌ منها:
– النجاح المبهر في عملية العبور المجيد صبيحة السابع من أكتوبر 2023؛ فقد تمكن المجاهدون من اقتحام منطقة الغلاف وقتل 1320 شخصًا بين عسكريين ومستوطنين وأسر نحوٍ من 250، في عمليةِ تضليلٍ استراتيجية للعدو تمكنوا معها من تعطيل أنظمة التصوير والاتصال والعبور المجيد حتى كان يوم السابع من أكتوبر هو يوم الإذلال للعدو الصهيوني، ولسوف يبقى يُمثِّل عُقدةً نفسيةً في العقلية الصهيونية لا تزول.
– الإعداد الجيد؛ فقد كشفت المعركة عن ترسانةٍ جيدةٍ أعدت على مدار سنواتٍ طويلةٍ من شبكات أنفاقٍ وقوةٍ صاروخيةٍ هائلة ومقذوفاتٍ جديدةٍ فتَّاكةٍ وطائراتٍ شراعيةٍ وغير ذلك، مع أنَّ سنوات الإعداد لم تكن سوى سنوات حصارٍ شديدٍ مفروضٍ على البلد ولا تدخل إبرةٌ إلا تحت نظر العدو ومراقبته، فكيف حصل هذا؟!
– الثبات الأسطوري الكبير الذي أظهره المجاهدون، فترى العدو يدخل منطقةً بغطاءٍ ناريٍّ عنيفٍ كثيف، وأحزمةٍ ناريةٍ بركانيةٍ ويبيد فيها كل شيء، بحيث ترى في الصور أكوامًا من ركام المباني ولا يوجد أي معلم كالذي رأينا في جباليا، وتنزل الأطنان تلو الأطنان من المتفجرات ثم تبقى أخبار العمليات التي تُثخن في العدو مستمرة طيلة أيام المعركة، بل تخرج الصواريخ من بين حانون وهي بلدةٌ صغيرة يسهل قطعها عن البلد تقع على حدود القطاع.
– احتضان الشعب للمقاومة، وصبره على اللأواء وشدائد العيش من الجوع والعطش وأصناف المرض والحر والبرد وغلاء الأسعار ومعاناة السكن في الخيام وغير ذلك مما يطول تتبعه.
– أن سحق غزة لم يكن مجرد ردة فعل صهيوني على ضربة السابع من أكتوبر التي أفقدته توازنه؛ بل كان خيارًا دوليًّا أراد النظام العالمي ممثلًا بالولايات المتحدة الأمريكية وكبرى الدول الأوروبية ومن دار في فلكها أن يستثمر فرصة بدء غزة بالهجوم لإنجازه.
وبالفعل فقد دخلت الولايات المتحدة بنفسها لساحة المعركة من خلال طاقمٍ يشارك في إدارتها، وألفي جندي، وخط تسليح دائم، وتبرعات وصلت قيمتها 22 مليار دولار وبوارج محملة بالطائرات والمقاتلات، كما شاركت بريطانيا وكان لها دورٌ كبيرٌ في التجسس الاستخباري، وكذا غيرها من مثل فرنسا وألمانيا.
ولم تنس بعض الدول العربية نصيبها من المشاركة من بينها مصر التي فرضت حصارًا قاسيًا على غزة وأبرز جانبٍ فيه دوام إغلاق معبر رفح حتى تعرض الناس لمجاعةٍ تلو مجاعة، حتى وصل سعر كيس الطحين الصغير في مدينتي غزة والشمال في بعض المراحل إلى ألف دولار وقد كان ثمنه في العادة في حدود 10 دولار أي أن سعره ارتفع مائة ضعف!
صحيحٌ أن الكيان الصهيوني كان مصرًّا على إغلاق المعبر لكن مصر بيدها أوراق قوة كان بالإمكان استخدامها، ولو كانت عاجزةً حقًّا عن ذلك فهذا يعني أنَّها فاقدةٌ للسيادة لا تستطيع أن تُلزم العدو بما اتفقت معه عليه في اتفاقية كامب ديفيد.
وليس من العجب أنه حين حصلت التهدئة وصارت الألسنة تتناول الولايات المتحدة بالقدح على جرائمها في الحرب صرَّح وزير الخارجية الأمريكية بلينكن لعنه الله بتاريخ 16-1-2025م في اليوم التالي لإعلان التوصل إلى اتفاق بأنه عندما تعرضت إسرائيل لهجومٍ لم نكن وحدنا المدافعين عنها؛ بل دافعت عنها بلدانٌ في المنطقة أيضًا.
– دوام القصف اليومي على مدار أيام المعركة والذي يُمكن أن يحمل الناس على تفهم خيار الاستسلام والتفكير في المصير إليه لوقف هذا النزيف.
– التتبع الأمني الهائل الذي يمنع حركة المجاهدين على الأرض ويتتبع أماكن تواجدهم لاستهدافهم،
ومن ذلك:
أ- الطائرات المُسَيَّرة «الزَّنَّانات» التي تحلق في الأجواء على مدار اللحظة طيلة أيام المعركة، وتقوم بتصوير كل شبرٍ في الأرض ويمكن أن تقصف أي هدفٍ يعرض لها.
ب- التتبع الخارق للهواتف وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث إنَّ بعض المجاهدين ما إن فتح هاتفه أو حسابه إلا وقد تم قصفه فورًا.
ج- وضع مَجَسَّات في بعض الأماكن ترصد بعض القيادات الميدانية من خلال بصمة الصوت، بل وتم استخدام الذكاء الاصطناعي في محاولة الوصول إلى كثيرٍ من القيادات.
د- الطائرات البريطانية التي تقوم بأدوارٍ تجسسيةٍ استخباريةٍ على مدار اللحظة.
هـ- العملاء الذين يتحركون على الأرض ويسألون عن أماكن تواجد المجاهدين، وعن الشخصيات الفاعلة التي تتحرك في الميدان، فلم يقف الاستهداف عند مستوى القيادات الكبرى وكذا الميدانية كما هو المعتاد؛ بل وصل التتبع في هذه المعركة لمستوى الجندي الفاعل.
و- أجهزة التجسس التي كانت تنزلها طائرات “الِكْوَادْ كَابتر” عند بعض الخيام، وكانت تقوم بذلك تحت غطاء صوت الطائرات المُسَيَّرة الذي يبلغ الغاية في الإزعاج حين تكون منخفضة.
ونفس طائرات الكواد كابتر فتنةٌ في نفسها، وكانت بالنسبة لي ضربٌ من الخيال الذي كان يخطر ببالي وأنا صغير، وفكرتها لمن لا يدري: هي آلةٌ قتاليةٌ صغيرةٌ فيها عدد من المراوح تمكن من الطيران والحركة، وهي سهلة التنقل من مكانٍ إلى مكان بما في ذلك البيوت والمواقع، ويمكن أن تستيقظ من النوم وتجدها على النافذة أو على رأس شجرة أو نخلة قريبة من المكان الذي ترصده، وهي ذات أحجام شتى وأكثرها يتراوح من نصف متر إلى متر، ويُثبَّت على بعضها رشاش، ويسهل التحكم بمستوى ارتفاعها، وحين يدخل العدو منطقةً يمكن أن تراها فوق الرؤوس ببضعة أمتار تطلق النار على من تشاء، وتتحرك بكلِّ سهولةٍ وخفة.
ولك أن تتخيل مقاتلًا يتحرك في الهواء كما يشاء، وبيده سلاح يطلق النار به على من يشاء، ويمكن أن ينتقل من مكانٍ إلى مكان كما يشاء.
وفي بعضها مايكروفون يتمكن الجندي الصهيوني الذي يتحكم بها من مكالمة من أراد في المكان الذي يرسلها إليه، وقد حصل أن أحد الإخوة دخل بيته وإذ بها تدخل خلفه داخل البيت والجندي يكلمه بواسطة المايكروفون المثبت فيها يأمره أن يرفع يديه وكلمه بما أراد، ويمكن أن يقتله أو يصيبه.
وهذه الطائرة لعلها أبرز المفاجآت الصهيونية لنا في هذه الحرب، فكانت معروفةً لكن لم يتم استخدامها من قبل بالقدر الذي رأينا، ومن شدتها أن العدو حين يداهم منطقةً فإنَّ فتنتها يمكن أن تزيد في نظر المجاهد عن فتنة الدبابات بل والجنود أنفسهم في بعض الأحيان.
وأكتفي بهذا القدر من المعطيات.
والمقصود: أن تقييم المشهد إنما ينبغي أن يتناول كل معطياته، ومن ثم فإنَّ من لا يدرك من المشهد إلا الخسارة فما أحسن التقييم.
وعلى هذا فيمكن أن يكون ينزل بالبلد السحق والتدمير ومشاهد البأساء والضراء والزلزلة ثم ينتهي المشهد بنصرٍ مبين.
وهذا المعنى تراه في قوله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
فقد نزل بالناس ما نزل من البأساء والضراء والزلزلة وطلبوا نصر الله وبشرهم الله بنصرٍ قريب؛ تصريحًا بأنَّ النصر يمكن أن يأتي في مشهدٍ فيه ما فيه من اللأواء والشدائد التي تسبقه ولا يشوش على النصر أنه نصر.
ولعل ذلك -أعني تقييم المشهد بمعطياته ومكوناته كافة- هو خيرُ ميزانٍ يمكن أن يُعتمدَ عليه؛ لأنه يضم في نفسه بقية الموازين الأخرى، وبه يتجلى فضل الله علينا في هذه المعركة.
***
وبعد أن ترى المشهد بما فيه من ربحٍ وخسارةٍ تجد في الوحي ما يُخَفِّفُ من وقع الخسارة مهما عظمت واشتدت.
ومن ذلك: ما واستنا به سورة البقرة حين أخبرتنا بأصناف الابتلاء التي تواجهنا في الميدان، وذلك في قوله سبحانه:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}
[البقرة: 155].
وجاءت سورة النساء تنص على أنه لا ينبغي النظر لما نزل بنا من ألم وإهمال ما نزل بعدونا من ألم، فالمشهد مكونٌ من الأَلَمَين، وذلك في قوله سبحانه:
{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}
[النساء: 104].
وجاء تقرير هذا المعنى والزيادة عليه في سورة آل عمران في الآيات التي جاءت تُعقِّبُ على غزوة أحد، وذلك في قوله سبحانه:
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}
[آل عمران: 139، 140].
ثم بقيت الآيات بعدها تسكب جرعات المواساة والسكينة بما لا يمل منه القارئ والسامع للآيات، وأختار من ذلك آيةً واحدة، تلك التي واست الصحابة y بما كان من جَلَد إخوانهم من صلحاء الأمم السابقة ومجاهديهم ورغَّبت في الصبر بأبلغ أسلوبٍ وأعظمه وذلك في قوله سبحانه:
{وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}
[آل عمران: 146].
وعليه؛ فإنَّ المتألم لا يكاد يشده من المشهد إلا مواضع الألم، ولكن عليه أن يزيل وضعية (الزوم) عن ذلك ويرى المشهد كله ليرى فضل الله عليه.
ولهذا سيختلف نظر من هو خارج البلد عمن هو داخل البلد؛ لأنَّ مَنْ في الخارج لا يضغط عليه الألم وينظر لكمال الصورة بسهولة.
بل دعك ممن خارج البلد، وتعال لنأخذ فئةً ممن ترى الألم بأكثر مما يراه أصحاب النزوح في المخيمات والتي فيها ما فيها من اللأواء وشدائد العيش؛ أعني فئة المجاهدين.
فإنَّ أولى الناس بالسؤال عن الانتصار هم المجاهدون؛ فهم الذين كانوا في قلب المعركة، وهم الذين رأوا أهوالها، وهم الذين تقلبت بهم الظروف حتى وصلنا لما وصلنا إليه، فكيف كانوا يتحركون تحت النار؟ وكيف كان التنسيق والتواصل يتم بينهم؟ وكيف يجري الإمداد بالطعام والماء والسلاح؟
إنَّ من المعلوم أنهم يتمكنون من ذلك كله في ظروفٍ تبدو مستحيلةً فعلًا، وتجري عليهم أوقاتٌ من الشدة لا يقدرون على معالجتها، وربما دخل كثيرٌ منهم في مجاعاتٍ وقسوةٍ لا يكاد المرء أن يتحمل سماعها فضلًا أن يتصور أن يعيشها.
وإذا جئنا إلى فئة المجاهدين الذين في الأنفاق فالأمر في حقِّهم أشد؛ فإنَّ الأنفاق أعدت في الأصل لتكون هجوميةً أو دفاعية، ولم تعد لتكون سكنًا دائمًا، ومع ذلك فكثيرٌ من المجاهدين نزل إلى الأنفاق بداية المعركة وبقي فيها حتى انتهت المعركة، ولم يخرجوا إلا حين انسحب العدو، ومن يخرج منهم فإنه يرى أهله وينجز بعض حوائجه ثم يعود في مناوباتٍ صاروا عليها، وهذا حين ينسحب العدو من المنطقة، أما وهو فيها فلا يخرجون قط ولو تيسَّر لهم ذلك.
وبعض الناس قد يتوهم أنَّ العيش في الأنفاق مريح، ولكن ما ظنك بنَفَقٍ عرضه متر أو دون ذلك، ولا يكاد يمشي فيه الماشي إلا منحنيًا، وهذا يمكن أن يفضي لآلامٍ وأمراض كغضروف الظهر، والظلام دامس والحركة عبر كشافاتٍ صغيرة، وربما تيسر وصل بعض أسلاك الطاقة حين انسحب العدو، أما قضاء الحاجة فهو مشقةٌ مستقلة؛ فكلما أراد المجاهد أن يقضي حاجته ربما مشى مئات الأمتار، بل حدثني أحد المجاهدين أنه كان يمشي نحوًا من 2 كيلو.
ثم إنَّ العدوَّ يمكن أن يكون في الأعلى، وهو يتتبع فتحات الأنفاق، ويفجر بعض مداخلها، ويسكب فيها كميات من الغاز القاتل ليقتل من بداخلها، هذا فضلًا عن القصف المباشر للنفق حين يُعرف مساره، وقد فقدنا كثيرًا من خيار المجاهدين في ذلك.
والأنفاق يسهل قطعها بفعل القصف، مما يعني دخول كثيرٍ من المجاهدين في مجاعةٍ وعطشٍ، ولهم أخبارٌ في ذلك عسى أن يتيسر الكلام عنها فيما يستقبل من الزمان إن شاء الله.
في هذا الجو وخلال تنزل أطنان المتفجرات وسيطرة العدو على منطقةٍ ما يخرج المجاهد من النفق ويُثخن في العدو، وقد صدرت كثيرٌ من المقاطع التي توثق ذلك، ومن يُستشهد من المجاهدين يتم دفنه داخل الأنفاق فيكون المجاهد مرابطًا في نفقه وبجواره قبر صاحبه الذي كان يحادثه ويؤنسه.
فكيف ينتقل المجاهد؟
وكيف يفتح عينًا حين يريد الخروج ليقاتل؟
وكيف يغلق أخرى إذا داهمه الخطر منها؟
وكيف يبني خطته إذا لم تكن الصورة في الأعلى واضحةً عنده؟
وكيف يتم الإمداد؟
وكيف يتمالك المصور نفسه ليوثق المقطع في ظل الخطر المحدق؟
وكيف يتم التصرف حين يُقصف النفق أو حين يكون جنود العدو عند فتحته؟
إنَّ الأرض لتميد بالمجاهدين في الأنفاق حين تُقصف، وهي لحظات شدة لا يخففها إلا ما ينزله الله عليهم من الثبات والسكينة.
وعلى ما تسطر؛ فإنَّ المجاهدين الذين عانوا ذلك وتمكنوا من حراسة البلد والدفاع عنه والإثخان في العدو وتركيعه ليخرج صاغرًا هم أدرى الناس بحقيقة النصر.
ولقد استمعت من بعضهم لما جرى معهم وما رأوا من آيات الله البينات، وعسى الله أن ييسر فرصةً للكلام عن ذلك بما تيسر، وأكتفي بتسجيل كلمةٍ سمعتها من أحدهم في حربٍ سابقة وهو يحدثني عن بعض المواقف التي عرضت لهم لما رآني مشدوهًا لما يقول سألني: لعلك أحسست بعناية الله؟ قلت: نعم من غير شك، قال: أما نحن فكُنَّا نراها!
المحور الرابع: هل انتصرت غزة أو لا؟:
بعد الذي تقرر وتسطَّر أرى أنَّ مجرد إزالة وضعية (الزوم) عن مشاهد الألم والخسارة يكشف أن ما جرى هو نصرٌ عظيمٌ لا هزيمة، بل أرى شخصيًّا وبحسب معطيات المشهد وموازين القوة ومن غير مبالغةٍ أو تأثرٍ عاطفيٍّ عارضٍ أنَّ ما جرى كان معجزةً عسكريةً لا مجرد نصرٍ عابر.
وثمة معيارٌ إضافيٌّ يتسجل غير ما ذُكِر يتمثل في عجز العدو الصهيوني على البقاء في الأرض التي يتمكن من السيطرة عليها؛ فهو يتمكن من سحق المنطقة التي يريد، ويدخل إليها بزخمٍ ناريٍّ كثيف وقصفٍ بركانيٍّ عنيف، ولكن بعد أن يتمكن منها ويصبح عرضةً لاستنزاف المجاهدين يلجأ أخيرًا إلى الانسحاب منها من غير أن يستفيد من الإنجازات التي حققها.
وأحسب أن ما جرى لم يكن إلا بتوفيق الله ونصره وتسديده ورحمته؛ فما أنزل الله من فضله أضعاف ما فعله أهل البلد من الإعداد والرباط والجهاد.
وإنَّ مجرد تخيل فارق القوة وما الذي فعله العدو بجباليا وشمال القطاع مثلًا ثم كيف بقي المجاهدون يدوسون على الكرامة الصهيونية ويطلقون الصواريخ ويعدون كمائن الموت ويثخنون في جنود العدو حتى آخر لحظةٍ في المعركة، ثم كيف رفع الله عنا البأس وخضع العدو ذو القوة الخارقة لصفقة تبادل أسرى حتى رأينا مجاهدينا أصحاب المؤبَّدات والأحكام العالية يخرجون رغمًا عن العدو وسجَّانوه هم الذين يفتحون أبواب الزنانين لهم ليخرجوا.. إن مجرد تخيل ذلك يريك أن ما جرى كان معجزةً، وستجد نفسك تخر ساجدًا لله شكرًا ولا ترفع رأسك من وقتٍ قصير وأنت تسبح الله وتحمده وتشكره وتثني عليه.
ولو أرجعت رأسك قليلًا ونظرت إلى غزة من خارج وتأملت كيف أن هذه المنطقة التي لا تزيد عن شارع في مدينة؛ فهي 41 كيلو من الجنوب إلى الشمال بمتوسط عرض 9 كيلو من الشرق إلى الغرب، وهي محاصرةٌ من الجهات الأربع، وقامت بهذه العملية الهجومية الضخمة وأقبل العدو بجيشه الذي بلغ 650 ألفًا، وسانده في ذلك تحالفٌ عالميٌّ اتخذ قرارًا بالإجماع على سحق البلد، والبلد ليس إلا هذه البقعة الصغيرة المستضعفة، التي لا توجد فيها أي تضاريس معينة على القتال، لكنها قاتلت على مدار 471 يومًا، ولم تخضع ساعةً.. فإنك ستعلم نوع المعجزة التي أجراها الله على أيدي رجال هذا البلد ومجاهديه!
يا ربي لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
وينبغي أن يكون واضحًا أنَّ الدخول في المعركة بهذه المعطيات لم يَخلُ من مغامرة، والمغامرة في العادة إما أن ترفع أصحابها إلى عنان السماء وإما أن تنزل بهم إلى قاع الأرض، ولهذا سيكثر الاختلاف بشأن قرار المعركة هل كان صائبًا أم لا؟، وبتجاوز الكلام عن ذلك فإنَّ الله جل جلاله سلَّم وبارك وثبَّت وأعان وهدى وصبر وبصَّر وآوى ونصر.
ولقد حاول العدو بكلِّ سبيلٍ أن يفكك الجبهة الداخلية للبلد، وفصول هذا المخطط كثيرةٌ ومتشعبةٌ في مسارات شتى،
وأكتفي من ذلك بثلاثة مسارات:
الأول: تجويع الناس لينفضوا عن المقاومة.
الثاني: التواصل مع بعض الشخصيات لفرض إدارة محليةٍ للبلد تتكون من العشائر والعائلات بعيدًا عن حركة حماس.
الثالث: السيطرة الناعمة على مقدرات البلد من خلال وسائل كثيرة منها تولي دفع الرواتب؛ كتلك المؤسسات الدولية التي تولت دفع رواتب الأطباء وغيرهم مثلًا.
وكلُّ ذلك قد فشل بفضل الله وحده.
ولم يقف النصر عند النتائج العسكرية؛ بل هناك أشياء كثيرة يمكن رصدها لتوضع في اللوحة الكبرى للمشهد لمعرفة أن ما جرى هل هو نصرٌ أو هزيمةٌ منها:
– صفقة تبادل الأسرى التي فرضت على العدو، وقد تقدمت الإشارة إليها.
– ما وفرته المعركة من سياقٍ خادم للثورة السورية حتى انتصرت بفضل الله.
– القضاء التام على القضاء على القضية الفلسطينية ودمج العدو الصهيوني في المنطقة من خلال التطبيع؛ فقد أحدثت المعركة من الوعي واتقاد المشاعر في أبناء الأمة ما يستحيل معه دمج العدو في المنطقة، بل كل خطوة رسمية من الأنظمة بهذا الاتجاه مصنفةٌ مسبقًا عند الشعوب أنها من الخيانة والعار.
– عملية الشحن النفسي التي أحدثتها المعركة في صدور أبناء الأمة، والتي تقضي الطبائع والتجارب بأنها كالبركان الخامد الذي يمكن أن يثور في أي لحظة ضد الظلم والطغيان، سوا ما يتعلق بالأنظمة الخائنة وكيلة الاستعمار، أو حتى بمشروع تحرير فلسطين؛ فلقد حاول العدو أن يسحق غزة ليُحوِّل الأمل بتحريرها إلى ألم يجعل غزة عبرةً لمن يعتبر، بما ينهي أي أملٍ في تحرير فلسطين، لكن الله ثبت وهدى وآوى ونصر.
وقد تناولت عددًا من الثمرات في الرسالة التي كتبتها في جوف المعركة وهي بعنوان: “من غمرات الطوفان.. آمالٌ متدثرةٌ بالآلام“.
كلمةٌ إلى من يُجادل في ذلك:
لو بقي هناك من يُجادل فيما تقرر، ويقرر بقوةٍ أنَّ ما جرى هزيمةٌ لا نصر، فهنا أتوجه له بسؤالين:
الأول: ما الذي دفع الرئيس الأمريكي ترامب وهو من هو في العنجهية والنرجسية والبطش أن يُجبر نتنياهو على توقيع الصفقة إلا ما رأى من الثبات الأسطوري لغزة على مدار أكثر من 15 شهرًا!
إنَّه علم بواقع الحال أن هذه المعركة لا يمكن أن تنتهي بنصرٍ للكيان، وأنها تمثل استنزافًا لا ينتهي، فقرر وقف النزيف، وهذا إيذانٌ بأنَّ ثبات المجاهدين وثبات أهل غزة هو كلمة السر في هذه المعجزة، وما كان هذا الثبات ليحصل إلا بتثبيت الله القوي العزيز الحميد.
الثاني: إذا لم نكن نحن من انتصر فالعدو إذن هو من انتصر؛ إذ لا بد من منتصرٍ ومنكسر، فإذا كان العدو من انتصر:
فلماذا لا تُقام أفراح النصر هناك الآن في الكيان؟!
ولماذا لم يخرج نتنياهو لإعلان خطاب النصر؟!
وماذا عساه أن يقول بشأن الأهداف الثلاثة التي كررها -فيما أحسب- (60) مرة على الأقل خلال المعركة؟
ثم إذا كانوا هم المنتصرين فلماذا عقدت هناك اجتماعات تلو اجتماعات حول استقالة بعض أفراد الائتلاف الحاكم من الحكومة؟!
ولماذا خرجت المعارضة تعلن توفير شبكة أمان للحكومة وقد تكرر هذا عشرات المرات؟!
هل هذا سلوك قومٍ منتصرين؟!
ثم إذا نظرنا في التصريحات الصادرة عنهم فهل نرى أجواء النصر؟
خذ هذه العَيِّنَةَ من التصريحات التي قيلت بمجرد إعلان التهدئة:
– يقول ميخائيل كوبي المسؤول السابق في جهاز الشاباك: هذه أسوأ صفقةٍ عقدتها إسرائيل في تاريخها.
– ويقول ابن غفير: الصفقة عارٌ وسنستقيل من الحكومة.
– ويقول اللواء احتياط إليعازر تشيني ماروم قائد سلاح البحرية السابق: على مدار 15 شهرًا لم نتمكن من تحقيق أهداف الحرب، ولا حتى واحد منها، وفي اليوم الذي وقعنا فيه على الصفقة كانت حماس تسيطر على كامل القطاع.
– ويقول الكاتب الإسرائيلي ألون مزراحي: حماس أسطورةٌ لأجيالٍ قادمة، لقد انتصرت علينا، بل انتصرت على كل الغرب وصمدت في المواجهة.
– ويقول الرئيس الأمريكي بايدن: الأنفاق التي أنشأتها حماس مذهلة، ووصل عمقها أحيانًا إلى 20 قدمًا، ولم تكن لدى أي شخص فكرة عن ذلك.
– وهذه صحيفة “إسرائيل اليوم” وعلى غير العادة تستعرض وعود نتنياهو على مدار تاريخ المعارك الكبرى بين غزة والكيان وتنشر تصريحاته الآتية مقرونةً بتاريخ التصريح بها:
– “سوف نسقط حماس” (2009)
– “لقد تلقت حماس ضربةً قاسيةً وستستمر في المعاناة” (2014)
– “حماس مردوعةٌ وخائفة ولن تطلق النار على أراضينا” (2023)
– “حماس لن تحكم قطاع غزة بعد الآن” (2024)
– “لن نتوقف حتى النصر المطلق” (2024)
– “ننتظر الرد من حماس على صفقة التبادل ووقف إطلاق النار” (2025)!
وإنَّ المعركة أكبر من حركة حماس ولكني أسميها في المقال بحكم أنها من فجَّر المعركة وأعلنها وقادها وتولى أكثر أعباء القتال فيها، وإلا.. فإنه لولا الحاضنة الشعبية -بعد فضل الله تعالى- التي ساندت المقاومة ونصرتها وحمت ظهرها لما استطاعت المقاومة أن تفعل شيئًا، فالنصر هو لمجموع الشعب لا لخصوص رجال حماس أو سرايا القدس وبقية المجاهدين مع كونهم طليعة البلد ورأس الحربة فيه، جزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأجزل لهم المثوبة والعطاء.
ثم هب أنَّنا هُزمنا؛ فإنَّ الضعيف لو هُزم فمن العقل أن يبتسم ليُفقِدَ عدوَّه لذة النصر، هذا إن انتصر.
لكني أشعر أنَّ بعض الناس كأنما يشتهون الهزيمة.
وبقي من تتمة القول إن أُشِيرَ إلى فئةٍ مخصوصة؛ وهي التي لديها إشكاليةٌ مع فكرة المقاومة نفسها، فالأمر لا يتعلق بخصوص عملية السابع من أكتوبر فهذه يتسع فيها الخلاف والنظر، وينبغي أن تتسع صدور قادة حماس للمخالف لهم في ذلك؛ لكن الكلام هنا عن فئةٍ تخرج بعد كل معركةٍ وتشمت بالمقاومة وتقرر أن ما جرى هزيمةٌ لا نصر، هذه الفئة ينبغي أن تعيد النظر في رأيها وموقفها، ومن لا يفعل ذلك ويصر على حاله فيؤسفني أن أقول: إنَّ التاريخ يمر ولا يحفظ من أقوال هؤلاء شيئًا، فهل تذكرون ما قيل عقب المعارك السابقة؟!
وهذه الفئة أصدق خطابٍ مناسبٍ معها ما جاء في المنافقين في قوله سبحانه: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 119، 120].
وقد أحسن أخي الشيخ بلال بن جميل مطاوع وفقه الله إذ قال: “أين تحقق الإنجاز وأين وقع الإخفاق؟ أين كان النصر وأين كانت الهزيمة؟ أين الصواب وأين الخطأ؟ في سياق تقييم الفعل المقاوم أو نقده يطرح البعض هذه الأسئلة بدافع التصبر في تطور المقاومة وانتقالها من وضعيةٍ إلى أخرى أكثر تقدمًا، وفي المقابل يطرح آخرون الأسئلة نفسها من منطلق التشكيك والريبة، وعلى هذا الأساس فإنَّ الأسئلة مشروعةٌ طالما كان من يطرحها يقف على أرضية المقاومة، لكنها تغدو تخذيلًا إذا ما أذاعها المرجفون في المدينة الذي لا يقترحون الأسئلة إلا وهي مشحونةٌ بإجاباتٍ ضمنيةٍ بعدم جدوى المقاومة”.
هذا، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.