قرأتُ لك: بريطانيا والقس دنلوب وتدمير التعليم المصري
في سبتمبر 1882، تمكن الإنجليز من احتلال مصر بصورة رسمية حين كان دخولهم بغرض القضاء على الثورة العرابية التي أعلنت أنها تريد تحقيق العدل والمساواة وعودة الحياة النيابية، وتقليص نفوذ الأجانب الذين سيطروا على مالية مصر من خلال الديون التي أوقعها فيها الخديوي إسماعيل طوال مدة حكمه.
فكان من مصلحة الفرنسيين والبريطانيين -بل عموم الأجانب في مصر- أن تستمر امتيازاتهم الضخمة دون مساس، مثل السيطرة على الحكومة المصرية، ومراقبة ماليتها، وإنشاء المحاكم المختلطة التي كانت تقضي لصالح الأجنبي. وقد أدت هذه المظالم إلى تفاقم الأوضاع الداخلية، وقيام وزير الحربية أحمد عرابي باشا بانتفاضة عسكرية مسلحة ضد الخديوي ومن ورائه القوى الغربية.
ولكن الإنجليز استغلوا هذه الثورة وجاؤوا إلى مصر بحجة الدفاع عن الخديوي توفيق بن إسماعيل، والقضاء على حركة “العاصي” أحمد عرابي، وهو الوصف الذي نُعت به عرابي في الصحافة الموالية للقصر والإنجليز في ذلك الحين.
وبالقضاء على الثورة العرابية، وهزيمة الجيش في الإسكندرية والتل الكبير، دخل الإنجليز القاهرة، وسيطروا على المراكز المفصلية في البلاد من الجيش إلى وزارة الداخلية والشرطة والزراعة والمالية.
التعليم المصري قبل الإنجليز
كان التعليم في مصر مرتبطا ارتباطا كبيرا بالكتاتيب التي انتشرت في طول البلاد وعرضها، ثم بالأزهر في المراحل اللاحقة حتى التخرج، وحين ارتقى محمد علي باشا لولاية مصر يوم 18 يونيو 1805، حرص على إنشاء نظام تعليم حديث متأثر بالنمط الفرنسي، وكان يهدف من ورائه لتخريج موظفين يعملون في دواوين الحكومة.
وكما يقول طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر: “ما أظن أن الذين أنشؤوا التعليم العام في مصر قد فكروا قبل كل شيء في طرد الجهل من رؤوس المصريين وإقامة العلم مكانه، لأن الجهل ظلمة والعلم نور، ولكنهم رأوا الدولة في حاجة إلى الموظفين الأكفاء”.
ولهذه الحاجة العملية، أنشأ محمد علي التعليم الحديث في مراحله الابتدائية والثانوية، ثم أنشأ نظام المدارس والكليات، تماما كما أنشأ مدارس الألسن والطب والطوبجية والمهندسخانة وغيرها لهذا الغرض أيضا.
وخلال تلك الفترة، بُذلت محاولات ضعيفة لإصلاح التعليم في مصر ليشمل كافة أبناء الشعب، ولكن عام 1866 ناقش البرلمان المصري تعميم التعليم العام وضمّ نظام التعليم المزدوج إلى نظام تعليمي واحد. ثم في عام 1880، حاول وزير المعارف علي إبراهيم باشا تحقيق هذا النظام لضم جميع سكان مصر وأبنائهم لنظام تعليمي موحد وقوي.
القس دنلوب والسيطرة على التعليم
وحين جاء الإنجليز أدركوا أن السيطرة على التعليم والتخطيط له لا تقل أهمية عن السيطرة على وزارات الحربية والداخلية والمالية وغيرها، لذا فإنهم عملوا على تنفيذ سياسة تعليمية جديدة تتوافق مع إستراتيجيتهم في إطالة أمد الاحتلال لأطول فترة ممكنة.
ومن أجل إنشاء طبقات شعبية موالية لهم ومنفصلة عن تاريخها وثقافتها وحضارتها، حرص المعتمد البريطاني في مصر اللورد كرومر، على تعيين شخصية راديكالية لتحقيق أهداف الاحتلال البريطاني في البلاد.
هذه الشخصية تمثّلت في القس الأسكتلندي دوغلاس دنلوب، الذي عُيّن مدرّسا ثم سكرتيرا لوزارة المعارف (التعليم) عام 1897، ثم مستشارا بصورة رسمية عام 1906، فقام بكثير من التغييرات الكبيرة في مناهج التعليم، وطرق الانضمام للمدراس، فضلا عن سياسته الخطيرة في إضعاف اللغة العربية وتقوية نفوذ اللغات الأجنبية، وعلى رأسها الإنجليزية.
كل ذلك أعاد مستوى التعليم 50 عاما إلى الوراء، كما يقول إسماعيل القباني في كتابه “سياسة التعليم في مصر”، إذ أصروا على اتباع سياسة تعليمية رجعية مبنية على استمرار ازدواجية التعليم، أي وجود تعليم ديني مثل الكتاتيب وشعبي وحكومي وغير الحكومي، وهو ما خلق تمييزا طبقيا وتفرقة بين القادرين وغير القادرين وتعميقا للفروق بينهم، في ظل الحفاظ على أن الغاية من التعليم هي الإعداد للوظائف فقط.
ولهذا السبب، يعلق المفكر عباس العقاد على إستراتيجية الإنجليز التعليمية في مصر بقوله “سلكَ الإنجليز مسلكهم المعيب في وزارة المعارف، وأهملوا التعليم الصحيح إهمالا ظاهرا مقصودا لا تجدي فيه المغالطة، وحصروا همّهم كله في المدارس على تخريج الموظفين ومَن لا يحسنون ابتغاء الرزق من غير الوظيفة”.
وقد أصرّ دنلوب على تعميق هذه الفجوة، بل اعترف بأن النظام المدرسي المتبع في مدارس الحكومة لم يكن الغرض من وضعه القيام بكل حاجيات مصر من جهة التعليم، وهو يؤكد أنه نظام أجنبي الغرض منه إعداد فئات محددة فقط من المصريين لوظائف الحكومة وللمهن الفنية المتنوعة على النمط الأوروبي.
وهذا يعني أن بريطانيا أرادت من تعليم المصريين وجود عدة طبقات اجتماعية، ليسهل تحكمها في البلاد:
الأولى: هي التي كانت تعرف مبادئ القراءة والحساب فقط، وهو ما يشبه الاكتفاء بمرحلة الكتّاب أو الروضة.
والثانية: هي التي ستتمكن من إتمام مراحل التعليم الابتدائية والمتوسطة، ليتم تعيينهم في الوظائف الحكومية لتسيير مصالح الإنجليز والبلاد.
والطبقة الثالثة: هي التي سيتم تعليمها في مدارس على النمط الأوروبي الأرستقراطي، وهي فئة أبناء الباشوات والأمراء وعلية القوم من أصحاب الإقطاعيات الزراعية الكبيرة في البلاد ليتم ربط مصيرهم بمصير المحتل البريطاني.
وفي سبيل خلق هذه الطبقية في الشعب المصري وقصر التعليم على فئات قليلة، منع الإنجليز دخول المرحلة الابتدائية بالمجان، وجعلوا التعليم بمصروفات لا يتحملها إلا الأغنياء والقادرون من أبناء الشعب.
وكان حرص كرومر ودنلوب على هذه السياسة كبيرا لدرجة قيام أزمة وزارية أثناء تولي سعد زغلول وزارة المعارف بسبب منحه أحد الطلبة النابهين مجانية التعليم لتفوقه، مخالفا بذلك سياسة الاحتلال.
والأمر اللافت أن الوظائف التي كان يتحصل عليها الخريجون المصريون بعد كل هذا العنت والتشديد البريطاني، كانت تقتصر على الوظائف الكتابية والصغيرة تحت سلطة ومراقبة مباشرة من رؤسائهم الإنجليز، ولهذا السبب حرصوا على أن يلتحق المتخرجون من المدارس الابتدائية بهذه الوظائف، وضيّقوا بصورة لافتة على ارتقاء المصريين في التعليم الثانوي والجامعي.
والأدهى أن البريطانيين لما رأوا رغبة من المصريين في تعليم أبنائهم في المدارس الابتدائية، وقاسوا في سبيل ذلك الصعاب لدفع المصروفات المبالغ فيها، وبدأ عدد المتخرجين من تلك المرحلة يكثر بغية الحصول على الوظائف الحكومية أصدر الإنجليز مرسوما في مايو/أيار 1905 بإلغاء الحق المخوّل للحاصلين على الشهادة الابتدائية في الدخول في الخدمات الحكومية، وجعله حصرا للحاصلين على الثانوية.
ولم يتوقف الاحتلال البريطاني عند هذا الحد، بل قرر رفع المصروفات الدراسية في التعليم الثانوي حتى يسد الباب نهائيا في وجه الفقراء، وكان غرضه من ذلك أن يقف مستوى المصريين في التعليم عند مرحلة الثانوية.
وأمام بريق الوظائف الحكومية وأنها ملاذ آمن ومعاش دائم للأسر، أصر قطاع لا بأس به من فقراء المصريين على توفير الأموال اللازمة لاستمرار أبنائهم وإكمالهم المرحلة الثانوية، وأمام هذا الإقبال أصدر البريطانيون قرارا برفع درجة الالتحاق بالجامعات الحكومية.
ولمواجهة هذه السياسة الاستبدادية في التضييق على المصريين لنيل التعليم في مراحله المختلفة، أنشأت وزارة المعارف المصرية لجنة عام 1917 للنظر في الوسائل التي يجب أن تؤدي إلى نشر التعليم الأولي ومحو الأمية.
وعلى الرغم من أن اللجنة وضعت عام 1925 مشروعا ضخما لتحقيق هذه الغاية، وحددت لها 15 عاما لتنفيذها، فإن عام 1940 ما جاء إلا وكانت نسبة الأمية في مصر لا تزال تبلغ 82%، والمدارس الابتدائية لا تتسع إلا لنحو مليون طفل، في حين بلغ عدد الأطفال المستحقين للتعليم نحو 2.5 مليون تقريبا.
وبهذا التمييز الطبقي الذي خلقه الإنجليز من خلال التعليم تحقق التنافر الاجتماعي داخل مصر. وكما يوضح جرجس سلامة في كتابه “أثر الاحتلال البريطاني في التعليم القومي في مصر”، فإن كرومر حاول أن يوجه جهوده نحو إضعاف الطبقة الوسطى المثقفة، وهي الطبقة التي حملت لواء الحركة الوطنية في عهده.
وفي الحقيقة، فإن كرومر استطاع بسبب تقصيره المتعمد في النهوض بمستوى التعليم تأخير نمو هذه الطبقة، بينما عمل في الوقت نفسه على تضخيم طبقة كبار أصحاب الأراضي سواء من حيث الثروة أو العدد، وبهذا أوجد طبقة من أصحاب المصالح أصبحت تربط مصالحها ببقاء الاحتلال.
إضعاف المحتوى العربي
وإذا نظرنا إلى المحتوى والمناهج التعليمية التي كان يقدّمها الإنجليز للطلبة في المدارس، فسنجد أن أول ما قاموا به أنهم أحلوا الثقافة الإنجليزية محل الثقافة التركية التي كانت موجودة في مصر بحكم وجود العثمانيين بها من قبل.
ثم حاربوا اللغة الفرنسية التي رسّخها محمد علي باشا في التعليم طوال القرن الـ19، بل الثقافة واللغة الإيطالية التي وُجدت منذ أواخر القرن الـ18، وراح الإنجليز يقيلون رؤساء المدارس من الفرنسيين، كما فعلوا مع اللواء لارمي باشا ناظر المدرسة الحربية، وعيّنوا بدلا منه الضابط هوليت البريطاني.
أخذ الاحتلال في التوسع في إنشاء الأقسام الإنجليزية والتدريس بها في المدارس الابتدائية والثانوية والمدارس العليا، مثل مدرسة الحقوق التي كانت الدراسة بها بالفرنسية حصرا.
وفي 11 نوفمبر 1888، أصدر وزير المعارف علي مبارك باشا بضغط من الإنجليز قرارا بتدريس العلوم في السنتين الثالثة والرابعة بالإنجليزية، وأن تدرس الجغرافيا في المرحلتين بالإنجليزية والعربية، ثم أصبح التعليم في المدارس العليا في الطب والحقوق والهندسة بالإنجليزية، وقل نفوذ الفرنسية بجانبها للغاية.
وقد حرص القس دنلوب، المستشار الأسكتلندي المسؤول عن التعليم المصري في هذه الحقبة، على تأكيد أهمية التعليم باللغة الإنجليزية وعدم إضعافها، لأنه سيكون سببا في “تسرب الفساد إلى المدارس العليا، وقلّة جودة التعليم فيها”، على حد زعمه.
ولهذا السبب ألغي القس دنلوب استعمال اللغة العربية في جميع المراحل التعليمية وحلت محلها اللغة الإنجليزية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، كما يقول سلامة، بل قلّت حصص اللغة العربية في المدارس الابتدائية بشكل لافت للأنظار، إذ تم تقليصها من 46 حصة أسبوعيا إلى 32، وفي المقابل زادت حصص اللغة الإنجليزية من 18 إلى 34 حصة أسبوعيا.
ولهذه السياسة الخطيرة، حارب الحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل ومحمد فريد هذا التوجه الخطير، ورأوه مضرا بالمصالح العليا للمصريين، ولهذا عمل كامل على إنشاء المدارس الأهلية وتشجيعها واعتبارها مشروعا موازيا يقف أمام خطر المشروع البريطاني التعليمي في مصر.
وكان مما قاله عن أهدافه من إنشاء هذه المدارس “نحن لا نرمي إلى تربية موظفين أو إعداد طلاب للشهادات.. ولكننا نرمي إلى تخريج رجال خلائقهم محبة للوطن والتمسك بالفضيلة والارتباط ببعضهم”، كما شدد على ضرورة التعليم باللغة العربية وإحيائها في مواجهة التغريب في البلاد.
ولكن مصطفى كامل ورجال الحركة الوطنية المصرية في ذلك الحين كانوا في حقيقة الأمر في مقاعد المعارضة، ولم يكونوا قادرين على اللحاق بمخطط الإنجليز في تغريب التعليم المصري، وخلق الطبقية فيه.
والحق أن مستوى التعليم باللغة العربية كان قد انحدر بصورة خطيرة حتى أن المصريين العاملين في وزارة المعارف في ذلك الحين انتبهوا لهذا الخطر، ونبّهوا عليه، وجاء في المنشور رقم 4 لعام 1900 أن “تعليم اللغة العربية لم يأت بالنتيجة التي كانت منتظرة منه”.
وقد تتابعت هذه المنشورات التي تحذر من خطر تعليم كل العلوم بالإنجليزية مع الإضعاف المتعمد للغة العربية، ومدى ضعف الطلاب المتخرجين من الابتدائية والثانوية في اللغة العربية، ونتيجة للهجمة الكبرى التي قام بها مصطفى كامل والحزب الوطني صدر قرار بتدريس الحساب والهندسة في السنة الأولى بالمدارس الثانوية باللغة العربية ابتداء من عام 1907.
—————
المصدر: الجزيرة