الأمة الثقافية

قراءة في رواية “الطنطورية”

في تلك الرواية المهمة، تسرد الكاتبة سيرة عائلة فلسطينية تم اقتلاعها من أرضها في قرية الطنطورة، على يد عصابات “الهاغاناه”، وترصد من خلال الأحداث، تلك الرحلة التي قطعتها هذه العائلة ما بين عامي 1947 وهو العام السابق على النكبة وقيام إسرائيل، وعام 2000، والأحداث التاريخية التي رافقتها.

لتستعيد الرواية الكثير من الأحداث والوقائع التاريخية التي تتشابه مع واقع الحرب الدائرة حاليا في غزة وبعض المدن الفلسطينية الأخرى، وتكاد فصول هذه الرواية أن تكون توثيقية، لمعظم مراحل التاريخ الذي شهدته 4 أجيال، بينما تحمل في طياتها، العديد من الإشارات للحياة القاسية في المخيمات، في الوقت الذي ينتقل فيه السرد ما بين الحاضر والماضي، دائرا بنا رفقة حشد من التفاصيل، التي تنتقل من مرحلة ما قبل النكبة إلى المراحل التالية لها، حتى الوصول إلى مستهل الألفية الجديدة، وما بعد ذلك من تفاصيل، يتضمنها الواقع المعاش، عبر جرعات من السرد الدافق بحس عاطفي، وكتابة توثيقية، لجوانب من التاريخ، التي تستند في الكثير منها، إلى الكثير من الحكايات التي تسردها الذاكرة الحية.

تحملنا الرواية، لنتعايش مع المعاني تدور في معظمها حول المقاومة وصراع البقاء، وتحدي ما يجري على أرض الواقع، من ممارسات التهجير والقتل، تلك الممارسات التي لم يتوقف عنها الكيان المغتصب في أي يوم. تلك الممارسات التي جعلتنا نعيش وقائع بالغة البشاعة، ونشاهد معها صورا مفزعة للمجازر التي تناولتها رواية “الطنطورية”، ومن بينها الوقائع الموثقة لعدد من تلك المجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال، والتي كان من بينها، “مجزرة “الطنطورة”، ومجزرة “صبرا وشاتيلا”، حتى نصل إلى ملجأ مدرسة الأطفال في “صيدا”.

أصبحت قرية “الطنطورة” شاهدا على النكبة والأحداث من خلال “رقية” بطلة رواية “الطنطورية” وما تمثله المرأة الفلسطينية، في التعاطي مع يوميات اللجوء والتمسك بالمقاومة، حتى ولو بالإصرار على إنجاب المزيد من الأطفال. وعبر فصولها المتعددة، تؤرخ تلك الرواية للأماكن، وتوثق التواريخ والأشخاص، في مسعاها لتأكيد ما شهده الواقع من أحداث، حتى وإن اقتربت أحيانا في بعض المواقف من الخطابية، قبل أن تتدفق جمالية السرد على الفور، لتنقذها من مطبات المباشرة.

وإذا كانت رقية هي الراوية الرئيسية، في نص “الطنطورية”، إلا أنه في بعض الأحيان، يظهر هناك راو آخر، وعلى وجه التحديد، في اللحظة التي تحكي فيها رقية عن نفسها بضمير الغائب، وهو الأمر الذي تبرره الكاتبة، قائلة إن رقية تستخدم صيغة المتكلم في الغالب، غير أنها تشير بين حين وآخر، إلى نفسها بصيغة المفرد الغائب، كأنها تتحدث عن شخص آخر. وهنا تؤكد المؤلفة، أن هذا لا يعني أن الحديث ينتقل إلى راوية أخرى، بل يعني أنها في الوقت الذي تحكي عن نفسها، تتطلع إلى البنت التي كانت تسترجع مراحل سابقة من عمرها، أو تتأمل ذاتها.

ترسم المؤلفة في “الطنطورية” تاريخ البلد، وتصور على الأوراق، دماء المجازر، وشتات الشباب، وحطامهم، والأحلام التي راودتهم.

هل لخصت رقية بذلك الحكاية؟ امرأة تنتظر على محطة القطار، وبينما هي تنتظر عاشت حياة بأكملها، ثم جلست ذات يوم إلى دفترها لتنقل تلك الوقائع إلينا، بعد أن ظلت تتساءل: ما الذي تنتظره رقية؟ تلك اللاجئة الفلسطينية، التي أُخرجت منها لجنوب لبنان بعد مجزرة الطنطورة سنة 1948، لتنتقل لبيروت بعدها، وتعيش فيها حتى سنة 1982، ثم تشهد بعد ذلك مجزرة صبرا وشاتيلا. قبل أن تمكث قليلا وتعبر من بعدها الصحراء، ثم تطير إلى الإسكندرية، لترد في ذاكرتها، حكاية عابرة، من بين الآلاف من الحكايات الصغيرة، التي تمر عليها كل يوم، ولكنها تتساقط فيما بعد، في الزحام.

تبدأ هذه الأحداث بذلك المشهد المعبر، وقت أن استقبلت رقية، مكالمة هاتفية من صديقتها “وصال”، بعد سنوات من الغربة وانفصالهما القسري، قالت رقية: “وصال؟”، ثم انفجرت بما اختزنته من الدموع على مدى السنوات التي أعقبت النكبة، لم تنطق “رقية” حرفا واحدا، بعد كلمة “وصال”.

من هنا، يمكن القول إن الرواية جاءت مكثّفة وغنية، حتى إن القارئ يجد نفسه منغمسا في قراءة تاريخ شعب كامل، من خلال معاناة عائلة، لأن رواية “الطنطورية” لم تأت في سياق مشابه لغيرها من الروايات، قدر ما حملت بين فصولها خطا سرديا واضحا من خلال الطريقة المعتمدة فيه وما تضمنه في مضامينه، بعد أن نجحت المؤلفة في الجمع بين ما هو حقيقي، من أحداث تاريخية موثقة، على مدى السنوات التي تمتد منذ بداية النكبة، حتى الآن، وبين ما هو خيالي متمثّلا في شخصيات، منها رقية وعائلتها، وما جرى لهم من أحداث.

في هذا الجانب، جمعت الكاتبة تفاصيل الحياة لهذه الشخصيات، التي تضمها عائلة واحدة، لتتمكن من خلالها، من سرد آلام أبناء شعب فلسطين الصامد، متعمدة خلال سردها لتلك الأحداث، أن تسلط الضوء على تفاصيل الاجتياح الذي نفذته إسرائيل للبنان، وما ترافق معه من مجازر وحشية، إلى الدرجة التي يمكن معها اعتبار رواية “الطنطورية”، مرجعا مهما من بين المراجع التي انشغلت بتوثيق جوانب من الأحداث المؤلمة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني، على مدى نصف قرن وما يزال، وقد اعتمدت المؤلفة في ذلك، على محورين رئيسيين، يدوران من ثنائية “الموت والحياة ” إلى ثنائية “اليأس والأمل”، وعبر تصاعد للخط الدرامي للأحداث التي ظلت ترويها بطلة تلك الرواية “رقية”، انطلاقا من عمر الـ13، حتّى بلوغها الـ77، ومن خلال ذلك، ظل السرد يجنح حينا نحو الخيال، لكنه في الغالب ظل يميل بدرجة أكبر في اتجاه الواقعية.

لقبت “رقية” بالطنطورية، لكونها من قرية الطنطورة، التي تقع في جنوب حيفا على الساحل الفلسطيني، والتي عايشت عدة مجازر وحروب وانتكاسات بين عامي (1974 – 2000)، وهي في حد ذاتها، تاريخ يضم في جنباته، أحداث النكبة وتجربة اللجوء الفلسطيني، والحرب الأهلية اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان في نفس الوقت، كما أن “رقية” عايشت اللجوء مرتين، إحداهما حين اضطرت للهرب مع عائلتها من الطنطورة إلى صيدا في لبنان، والثانية من صيدا إلى الإمارات، في حين سكنت في 7 بيوت، ليكون الأول والأخير منها في صيدا، قريبا من بلادها التي لم تتمكن من العودة إليها.

تجربة محسوسة
لم يخطر في أذهان أهل قرية الطنطورة الوادعة، أن شرا مستطيرا سوف يصيبهم. وحتى بعد المجازر البشعة التي عايشوها، ظل لديهم يقين بأن النصر سيكون في النهاية للعرب، وحين وصل إلى قريتهم بعض أهالي “قيسارية” في أعقاب سقوطها، لم يقوموا بمعاملتهم كلاجئين، بل فتحوا أبواب بيوتهم لهم وعاملوهم كضيوف، وكان نصيب عائلة “رقية” أُمّا وولديها.

ومن خلال أحداث الرواية، نكتشف أن أول خلاف عائلي حاد نشأ بين والد رقية “أبو الصادق” وعمها “أبو الأمين” كان يوم قرر أبو الأمين أن يرحل إلى صيدا عن طريق البحر، لينقذ النساء والأطفال على الأقل. قال أبو الأمين، إن اليهود احتلوا حيفا في يومين، فكيف بالطنطورة؟ وردّ عليه أخوه الأكبر أبو الصادق: “حيفا نصفها يهود، وكانوا متمترسين في الكرمل، هم على الجبل ونحن في السهل. وضعنا يختلف. سيحمي الشباب زمام البلد، والحراسة موزعة من الشمال والجنوب والشرق. والقرى التي في الجبل عرب لا يهود. أهل عين غزال وجَبَع وإجزم صدّوا الهجوم ولسنا أقل منهم… الله يسهل عليك، ارحل انت وزوجتك وابنك. ولكن أنا حر في أهل بيتي”.

مواقع أدبية + الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى