أقلام حرة

محمد العنبري يكتب: كلمة حق أُريد بها باطل

كثيراً ما تُستخدم الكلمات كأدوات حرب في ميادين السياسة والمجتمع وكثيراً ما تختبئ النوايا خلف العبارات اللامعة التي تخدع الأبصار فلا يكاد المرء يميز بين الصادق فيها وبين المتلاعب ومن أقدم هذه الأساليب تلك العبارة الشهيرة التي تُنسب للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال عن الخوارج كلمة حق أُريد بها باطل

إنها جملة تلخص حالة من الدهاء الخبيث حيث يُقال الشيء الصحيح لكن بهدف خاطئ ويُرفع شعار جميل لكن بغرض قبيح ويُتخذ الحق وسيلة لتمرير الباطل وهذا الأسلوب ليس بجديد بل هو سلاح قديم استُخدم عبر العصور ولا يزال يتكرر بأشكال مختلفة في واقعنا اليوم

إن هذه العبارة تعني أن المضمون الظاهري للكلام صحيح لكنه يُستغل لخدمة غاية خبيثة وهذا النوع من المغالطات الكلامية يُعد من أخطر أساليب التضليل لأنه يعتمد على الخداع الذكي الذي يصعب كشفه بسهولة فمثلاً قد يُنادي شخص بضرورة تحقيق العدالة لكنه في الحقيقة يهدف إلى نشر الفوضى وتقويض النظام وقد يتحدث آخر عن أهمية حرية التعبير وهو في الباطن يريد التحريض على الفتنة وزرع الفُرقة

نجد كثيراً من السياسيين والجماعات يرفعون شعارات مثل الحرية والديمقراطية أو حتى الدين بينما في الحقيقة يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة فباسم الحرية قد تُنتهك حقوق الآخرين وباسم الدين قد يُبرَّر الظلم وباسم الوطنية قد يُمارَس القمع وكم من أشخاص يستخدمون النصوص الدينية لخدمة أجنداتهم السياسية أو الشخصية حيث يُقتطع الحديث الشريف أو الآية القرآنية من سياقها لتبرير موقف معين فيُستخدم الدين كوسيلة للسيطرة أو التحريض بدلاً من أن يكون منبعاً للحق والعدل

الإعلام قد يكون من أكثر الأدوات التي تُستخدم لنشر كلمات حق يُراد بها باطل فبعض الوسائل الإعلامية تسلط الضوء على قضية صحيحة لكنها تفعل ذلك بطريقة منحازة تخدم أجندة معينة تُظهر نصف الحقيقة وتُخفي النصف الآخر مما يجعل المتلقي يقع ضحية التضليل

النقد أداة للإصلاح لكن حين يُوظَّف بطريقة مغرضة يتحول إلى معول هدم فهناك من يدَّعي محاربة الفساد لكنه يستغل ذلك لإسقاط مؤسسات الدولة وهناك من يهاجم شخصيات معينة بحجة كشف الأخطاء بينما هدفه الحقيقي تصفية حسابات شخصية

هذا الأسلوب يُستخدم لتبرير أفعال غير مشروعة كمن يسرق بحجة إطعام الفقراء أو من يقتل بحجة الدفاع عن العقيدة كما يُستخدم للتأثير على العوام حيث يُقال كلامٌ يلامس مشاعر الناس لكنه يُوجَّه بطريقة تخدم مصلحة شخصية أو فئوية ويُستخدم أيضاً لإضفاء الشرعية على الباطل حيث يُلبَّس الباطل لباس الحق حتى يلقى قبولاً

لكشف هذا الأسلوب لا بد من التدقيق في النوايا فليس كل من قال شيئاً صحيحاً يعني أنه يقصد الخير علينا أن نسأل لماذا يُقال هذا الكلام ومن المستفيد منه كما يجب التحقق من السياق فكل كلمة تُقال يجب أن نضعها في سياقها الصحيح ونعرف الظروف التي قيلت فيها ومقارنة الأقوال بالأفعال فمن يدَّعي الإصلاح هل يمارس الإصلاح فعلاً ومن يدعو إلى الحق هل هو مُحقٌّ في كل مواقفه وأخيراً يجب البحث عن الدليل الكامل فلا نكتفي بمقطع مقتطع من حديث أو آية أو تصريح بل نبحث عن القصة الكاملة

في عالم مليء بالخداع والتضليل يجب أن نكون على درجة عالية من الوعي لنميز بين الحق الذي يُراد به حق والحق الذي يُراد به باطل ليس كل كلمة جميلة تعني الخير وليس كل شعار نبيل يعكس نوايا صادقة فالمتلاعبون بالكلمات موجودون في كل زمان والحقيقة تحتاج إلى عقل ناقد وقلب واعٍ حتى لا نقع في فخ الكلمات البراقة التي تُخفي وراءها أهدافاً خبيثة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights