بحوث ودراسات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: ماذا يعني اليومُ العالميُّ للّغة العربية؟

من وحي الأيام:

الحمد لله الذي شرَّف العربية وعظَّمها، ورفع خطرها وكَرَّمَها، وقَيَّض لها -في كل زمان ومكان- حَفظةً وخَزَنةً مِن خواص الناس وأعيان الفضل وأنجم الأرض، مَن حافَظوا على حيويتها، وصانوا نضارتها،

وأفنوا أعمارهم في خدمتها، وأثروها بأبكار نتاج عقولهم وروائع فيض قرائحهم، والصلاة والسلام على محمد النبي العربي الهاشمي القرشي، أبلغُ وأفصحُ من نطق من العرب والعجم، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللغة العربية وعاء قرآننا

وبعد. فاللغة العربية وعاء قرآننا، وسياج هويتنا، ورمز حضارتنا، وعمادُ ثقافتنا، وبهاءُ كلامِنا، وفخر تراثنا، وقد استطاعت بفضل ما لها من خصائص البقاء والصمود،

بل الخلود -التي تستمدها من كونها لغةَ القرآن الكريم- كتاب العربية الأكبر -وحاملةَ رسالةِ الإسلام- أن تستوعب كل ما أفرزته الحضارات الأخرى في مجالات الحياة كافة، وتصوغها وفق منظور إسلامي خالص نزيه.

ذاتُ الحسن والجمال، والسحر والبيان، فلم تحظ لغة في التاريخ البشري بمثل ما حظيت به العربية من «الحسن» الذي يعجز عن وصفه الأدباء والشعراء، فهي سر الحسن، ورمز الجمال، ومعجزة الفن والبيان.

 حقًّا.. إنها اللغة الأكثر جمالًا وروعة.. ومن هنا.. قال الجاحظ:

«نحن قوم نسحر بالبيان ونموه بالقول»..

وقال عنها أحمد شوقي:

إن الذي ملأ اللغات محاسن ::: جعل الجمال وسره في الضاد

وقال شاعر عربي آخر وهو يصف محاسن بنت عدنان:

 يا ابنة السابقين من قحطان :::  وتراث الأمجاد من عدنان

 أنت علمتِني البيانَ فمالي :::  كلما لحتِ حار فيك بياني

 رب حسن يعوق عن وصف حُسنِ :::  وجمال ينسي جمال المعاني

 يا ابنة الضاد أنتِ سر من الحسن ::: تجلى على بني الإنسان

لغة الفن أنت والسر والشعر ::: ونور الحجى ووحي الجنان

وهي -العربية- ذات موقع متميز بين لغات البشر، فهي اللغة السادسة من بين ١٦٠ (مائة وستين من اللغات الأم في العالم) وفقًا لبعض الدراسات التي أجرتها منظمة «اليونسكو» ونشرت نتائجها في مختلف وسائل الإعلام العالمية.

كما أنها – العربية– اللغة الأم لنحو ٥٠٠ مليون عربي، واللغة المقدسة لنحو ٢ مليار مسلم، وتتمتع بصفة لغة رسمية في نحو ٢٥دولة.

إنها تزخر وتغنى بأروع وأنفس ما تفتقت عنه القريحة البشرية -عبر امتدادها الغارق في القدم- من كنوز العلم والمعرفة والأدب والثقافة، التي لا نظير لها -لا كمًّا ولا كيفًا- لدى أي أمة من الأمم الماضية أو الحاضرة على وجه الأرض، فبحرها لا ينزف:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن ::: فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

اللغة العبقرية الفذة، التي تعتبر أم اللغات، وأصل كل اللهجات، التي عرفتها الدنيا بأسرها، والتي أمدت – ولا تزال – الأدباء والكتاب بوابل صيب من البيان الأدبي الذي لم تشهد له الدنيا مثيلًا:

لله در لسان كله أدب ::: بفضله يتحلى العجم والعرب

اللغة التي شهد بفضلها وثراها حتى غير المسلمين:

ومليحة شهدت لها ضراتها ::: والفضل ما شهدت به الأعداء

 ثم أن نزول القرآن الكريم بهذه اللغة العظيمة أعطاها سر الحياة وروح الخلود، فجاء القرآن الكريم ليضع التاج النبيل على رأس هذه اللغة الكريمة التي تحمل كلمة الله، وروح محمد صلى الله عليه وسلم وسر الإسلام.

فمن هنا… يعَدُّ تعلم العربية والوقوف على بيانها، ومعرفة مذاهب القول فيها من الفقه في الدين، إذ لا سبيل إلى تدبر كتاب الله إلا بمعرفة العربية،

وعلى قدر عمق هذه المعرفة يكون العلم بأسرار القرآن، ومن ظن أنه قادر على فهم كتاب الله على وجهه، الذي أراده الشارع،

وإدراكِ مقاصده دون أن يعرف أساليب العرب ومذاهبها في القول، ووجوه تصرف اللغة، فقد فتح على نفسه نافذة ينفذ منها كل زيغ، وتلج منها كل ضلالة.

حب  اللغة العربية من حب الله

كما أن حب هذه اللغة من حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك تعلُّمُها من صميم الدين والعقيدة.. وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

«تعلموا العربية، فإنها من دينكم» (١).

ثم إن القول بأن حب العربية من حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ليس بدعًا من الأقوال،

فلسنا أول القائلين بهذه النظرة التي تعتبر حبَّ العربية من حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم،

فقد قال بذلك قبلنا – بقرون وقرون – أحد عباقرة الإسلام، وفطاحل العربية الإمام أبو منصور عبد الملك بن محمد إسماعيل الثعالبي (٣٥٠هـ، ٩٦١م – ٤٢٩ هـ، ۱۰۳۸م)

وأثبته بدليل منطقي رائع معقول، مضَمَّخ بريَّا الحب والحنان، وشذى الغرام والهيام بلغة القرآن، يسيغه كل مؤمن، بل كل إنسان له أدنى مسكة من العقل والرشد، يقول:

«من أحب الله تعالى، أحب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الرسول العربي، أحب العرب،

ومن أحب العرب، أحب العربية، التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها،

ومن هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، و آتاه حسن سريرة فيه، اعتقد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خير الرسل، والإسلام خير الملل،

والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمهامن الديانة، إذ هي أداة العلم ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد».(٢)

بل بلغ الحب لهذه اللغة الجليلة ببعض سلفنا إلى أنه كان يفضل أن يُسَبّ بالعربية على أن يُثنٰى عليه بغيرها،

فقد ذكرت الكتب قولة تاريخية رائعة لأبي الريحان البيروني، تبين مدى حبه للعربية حبًا، لا يتصور فوقه حب:

 «لئن أُشتَم بالعربية خير من أن أُمدَح بالفارسية».

والمراد بالفارسية – طبعًا – كل لغة غير العربية..

لغة كريمة مقدسة خالدة

فلا شك أن نزول القرآن الكريم بهذه اللغة الكريمة، وكونَها لغةَ الرسول صلى الله عليه وسلم، أضفى عليها هذه العظمة، وهذه القداسة، والبقاء، والخلود،

وهذا الحب والهيام، والتفرد والتميز، وهذه المكانة الفريدة المحسودة، وغيرها من الخصائص، التي لا تضاهيها فيها أي لغة من لغات العالم.

فمن هذا المنطلق الإيماني، القرآني النبوي الجليل، نحب هذه اللغة الكريمة، ونعتبر تعلمها وتعليمها،

وخدمتها -نشرًا وتأليفًا- شرفًا لنا أي شرف، نعتز به، وندعو الآخرين للحصول عليه..

هذا. ونحن المسلمين – من المعنيين بأمر هذه اللغة – لا ينبغي لنا أن نقتصر على الاحتفال بها في يوم معين من السنة..،

ثم نظن أننا أدينا مسؤوليتنا نحو هذه اللغة الجليلة، بل نعتبر هذا من العقوق بالنسبة لهذه اللغة..

ومن الجفاء وعدم الوفاء لها.. والنكران لجميلها.. وعدم التقدير لمزاياها..

وعدمِ إعطائها حقها من الخدمة والاهتمام والرعاية..

بل يجب علينا أن يكون احتفالنا بها على مدار أيام السنة.. بل مدى الحياة كلها.. لأنها هي اللغة التي فضلها ربنا على سائر اللغات،

فأرسل إلينا عبرها الرسالة السماوية الأخيرة التي تضمن الفلاح للبشرية جمعاء إلى قيام الساعة..

فاحتفال المسلم بهذه اللغة، وعنايته بها – تعلمًا وتعليمًا وتوسيعًا لنطاقها – واجب ديني مقدس منذ بداية عهده بالوعي إلى آخر نفس من أنفاس حياته..

لا على شكل تقليدي أو رسم ظاهري لا يسمن ولا يغني من جوع..

على أن لا مانع من الاحتفال السنوي باللغة العظيمة في يوم معين من العام، ليذَكِّرنا بالتزاماتنا نحو هذه اللغة،

ولِيجَدّد لنا اهتمامَنا بها، وليوقظ فينا الشعور بأهميتها وعظمتها من جديد..

فنظرّا لهذا الاعتبار.. نقول: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بهذا اليوم العالمي (١٨ من ديسمبر) للغة العربية..

وكل عام والمسلمون والعرب بألف خير.. والعربيةُ إلى ازدهار أعظم، ونطاق أوسع، وانتشار أكثر..

الهوامش:

(١) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية، ص: ٢٠٧، مكتبة أنصار السنة المحمدية، لاهور.

(٢) فقه اللغة وسر العربية، صـ ٥.

(الأربعاء: ١٨ من جمادى الآخرة ١٤٤٦ھ = ١٨ من ديسمبر – كانون الأول – ٢٠٢٤م).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى