معصوم مرزوق يكتب: تقدير موقف سياسي
انفجرت بالوعة المقترحات السياسية لتناول ما أطلق عليه: «اليوم التالي لمعركة غزة»، وأغلبها، حتى من بعض دهاقنة الفكر العربي تفترض هزيمة ساحقة للمقاومة الفلسطينية، وإمكانية تنازل أمريكا بالعودة للإشراف على دوامة «عملية السلام»، التي يعرف الجميع أنها الوصفة المهذبة لتصفية القضية الفلسطينية.
ومن ناحية أخري اتخذ فريق متشدد الدعوة لتوسيع دائرة الحرب، لتوريط جيوش عربية وغير عربية في القتال الدائر حاليا، والذي لا تزال إسرائيل تتلقي فيه دعما عسكريا أمريكيا وغربيا غير مسبوق،
لدرجة المشاركة الفعلية في بعض العمليات القتالية، لكأن هؤلاء المتشددين يطالبون الجيوش العربية بالدخول في حرب عالمية ضد قوي الغرب دون الاستعداد الكافي والتهيئة المطلوبة لمثل هذا الخيار.
قواعد وأصول الحرب النظامية للجيوش
الحرب النظامية للجيوش لها قواعد وأصول، فلا يمكن اشتباك جيش دون إعداد المجتمع، وتهيئة الأوضاع الاقتصادية
ليصبح اقتصاد حرب، وإعداد الجيش نفسه تدريبا وتسليحا وعقيدة قتالية، ووضع الخطط العسكرية اللازمة.
ولا شك كما أسلفت في أن قيام بعض الجيوش العربية بقتال الجيش الإسرائيلي يعني حاليا الدخول في حرب مع أمريكا، وعدد من دول الناتو.
ولعل الأفضل في مواجهة شكل الاصطفاف الدولي الحالي هو أسلوب حرب العصابات الذي تنفذه الآن بكفاءة المقاومة الفلسطينية،
لأن ذلك ينزع من إسرائيل واحدا من أهم أسلحتها الدعائية باعتبارها حمل وديع يحاوطه ذئاب العرب المتوحشة التي تريد القضاء عليه،
كما أنه من الواضح أن أسلوب الحرب الحالي الذي تتبعه إسرائيل في غزة يفقدها تدريجيا «حرب الصورة»،
وهكذا يتراجع دعمها في أوساط الرأي العام العالمي، وهو ما سوف يؤثر تدريجيا علي مواقف الحكومات الغربية،
وربما خفف ذلك أيضا من غلواء الانحياز الأمريكي الأعمى.
تجربة جنوب إفريقيا
وهنا من المهم الإشارة إلى تجربة جنوب إفريقيا التي أثبتت نجاعة الأسلوب المتدرج، والمزج الماهر بين الدبلوماسية والقتال،
وهو ما نجح أيضا في الحالة الفيتنامية مع فهم الفروق الجيوسياسية في تلك الحالات.
ولكن هل يعني ما تقدم اكتفاء دول الإقليم، عربا وغير عرب بمجرد الصياح الإعلامي،
والتزاحم الدبلوماسي في سوق نيويورك لتجارة الكلام المسمى الأمم المتحدة.
هل تتحمل بعض الدول العربية، ومنها مصر على وجه الخصوص استمرار هذه المذابح، بل وزحف بعض النيران كي تهدد أمنها القومي،
مثل احتمالات الترانسفير التي اعتبرها وزير خارجية الاردن بمثابة إعلان حرب ضد بلاده؟
في الواقع هناك وسائل دون الحرب، وأكثر من مجرد القعود عن مواجهة الخطر الوجودي الذي يتهدد المنطقة كلها بلا استثناء.
لقد تعددت مثلا الوسائل التي استخدمت في تحرير جنوب إفريقيا من نظام الأبارتايد، فلم تتدخل دولة إفريقية بشكل مباشر في الحرب،
وإنما كانت تقدم الدعم العسكري والمادي والسياسي، بما ادي بشكل تراكمي إلي عزل النظام العنصري وسقوطه في النهاية كورقة جافة.
الجبهات عبء على موقف المقاومة
أظن أيضا أن حسن التقدير يدعو إلى عدم فتح جبهات لا لزوم لها، يمكن أن تكون عبئا على موقف المقاومة الإجمالي،
فلا اعتقد مثلا أن تهديد الملاحة البحرية في البحر الأحمر، له أي فائدة دون أن يكون له عائد عسكري مباشر علي العمليات في غزة،
ففضلا عن أن ذلك يخدم إسرائيل في معركة الصورة، فأنه يضر باقتصاديات دول المنطقة وبحركة التجارة الدولية عبر قناة السويس،
وهي أضرار تقلص من إمكانيات دول قد تحتاج مواردها في مواجهة مستقبلية لابد أنها آتية.
أعتقد أنه يمكن أيضا، ودون التورط في حرب نظامية إقرار المقاطعة الاقتصادية للدول والشركات التي تشارك في المجهود العسكري الإسرائيلي.
كذلك يمكن في هذه المرحلة تقديم الدعم الفني والدبلوماسي والمادي للتحرك
الذي يتبناه حاليا عدد من المحامين من مختلف الجنسيات لعرض جرائم إسرائيل على المحكمة الجنائية الدولية.
التخلص من كل القواعد العسكرية الأجنبية
وربما أمكن كذلك أن تصدر جامعة الدول العربية توصية بالعمل على التخلص من كل القواعد العسكرية الأجنبية،
مع وضع خطة عمل لإنشاء تنظيم أمني إقليمي يمكن أن تشارك فيه دول غير عربية على غرار الناتو وأصدقاء الناتو.
وأخيرا ليس من المحبذ على الجانب العربي المبادرة بطرح صيغ «لما بعد حماس»،
لأن ذلك يعد في حد ذاته خيانة لمقاتلين ينزفون حاليا في ميادين القتال، ورقص على الأنغام الصهيونية.
وقد يكون من الأفضل لتلك العقول المتصهينة، أبناء جماعة كوبنهاجن
والذين أصيبوا بعدواها أن يجتهدوا في طرح «لما بعد التخلص من النظام الصهيوني العنصري»،
وكيفية استعادة التنفيذ الأمين للقرار رقم 181 الذي يعد تاريخيا هو المنشئ لما يسمي إسرائيل.