الأحد مايو 19, 2024
مقالات

أحمد الشريف يكتب: أساطير التضحيات المصرية من أجل القضية الفلسطينية؟!

لا أقرأ أو أسمع عن مزايدات المصريين وتشدقهم بالتضحيات الباهظة خلال عقود طويلة وبذلهم النفيس والغالي في سبيل القضية الفلسطينية حتى يتبادر إلى الذهن بحث العلّامة اللغوي الأستاذ “محمد سعيد الأفغاني” [١٩٠٩–١٩٩٧م/١٤١٧هـ]، عن معنى كلمة “الأساطير” في معجماتنا العربية، فهى “الأحاديث لا نظام لها”، والأساطير: “الأباطيل”، سَطَر علينا: “إذا جاء بأحاديث باطلة”، وسَطَر عليه: زخرف له الأقاويل المؤلّفة ونمّقها!.[١]..

وذلك لأنها أصدق كلمة يمكن إطلاقها على تلك التّرّهات التي يتفوه بها أولئك الذين يعتلون سدة الحكم في مصر منذ توقيع اتفاقية “كامب ديفيد” في نهاية سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن، ويرددها أبواقهم الإعلامية حتى آمن بها وصدقها قطاع عريض من الشعب المصري مؤكدًا صحتها في كل مناسبة!.

فعلى سبيل المثال أذكر في إطار سلسلة ندوات نظمتها إدارة التربية العسكرية بجامعة الإسكندرية، خلال إجازة نصف العام الدراسى فبراير ٢٠٠٩م، عقدت كلية العلوم ندوة تحت عنوان: الجولات المصرية الإسـرائيلية وما قدمته القوات المسلحة خلالها من بطولات وتضحيات..

وقد حاضر فى تلك الندوة اللواء “عبد المنعم سعيد كاطو”، واللواء “أحمد عبد الحليم” والعقيد “أيمن عبد اللطيف”، وشملت الندوة الحديث عمّا قدمته مصر من تضحيات من أجل القضية الفلسطينية، بلغت ١٢٠ ألف شهيد، هذا بخلاف موارد التنمية التى أهملناها خلال سنوات الحرب ضد إسـرائيل وصرنا بسببها من أواخر الدول!..[٢]..

وقد تعجبت وقتها أن يخرج هذا الرقم الفجّ بكل هذه (البجاحة) من خلال تلك القامات المرموقة في المؤسسة العسكرية التي من المفترض علمها بحقيقة وأسـرار تلك المعارك، وباعتبارهم مختلفين عن العوام والدهماء الجاهلين بالأحداث!.. ولكن زال العجب بعد ثورة يناير عندما تأكدت أن هذا هو طبيعة المستوى المعرفي والإدراكي لأولئك الرجال، حتى أن “السيسي” في إطار الرد على الانتقادات الموجهة إلى “مصر” بسـبب موقفها المُسْتَخْذِي حيال العدوان على قطاع غزة في يوليو سنة ٢٠١٤م، قال: «إن مصر ترفض المزايدة على دورها بعدما قدمت “مائة ألف شهيد للقضية الفلسـطينية”»!.[٣]

وأنا هنا أعني كلمة (البجاحة) بكل دقة حيث إن التبجح هو الإدعاء والتفاخر بأمر لم يحدث بل إن العكس هو الصحيح تمامًا، ولكن قبل الاستطراد في تلك النقطة يجب أولاً تحرير مسألة المائة ألف شهيد تلك.. وذلك من خلال فقرة مهمة في مقال الأستاذ “فهمي هويدي” الذي كتبه للرد على تصريح الرئيس وأبواقه الإعلامية الذين ضربوا بشدة على نفس الوتر وهو المقال الذي تم دفنه وإهالة التراب عليه شأن كل نفيس وجيّد في هذا العصر الرديء!.

«إن الذين استشهدوا على أرض فلسطين في حرب عام ١٩٤٨م لم يتجاوز عددهم ١١٦١ شخصًا بينهم مائة ضابط و٨٦١ جنديًّا ومائتي متطوع من خارج القوات المسلحة “الشهداء من رجال القوات المسلحة أسماؤهم مسجلة ومحفوظة” وهذا الرقم أورده المؤرخ العسكري المصري اللواء “إبراهيم شكيب” في كتابه “حرب فلسطين ١٩٤٨ ــ رؤية مصرية”، وهو رقم لم يختلف كثيرا عن تقييمات المصادر الأمريكية، وإن بالغت فيه قليلا المصادر الإسـرائيلية (موقع جويش فيرتال ليبرتى ذكر أن عددهم ٢٠٠٠ شهيد)..  للعلم: اللواء شكيب ذكر أن الجيوش العربية كلها قدمت في تلك الحرب ١٥٠٠٠ شهيد و٢٥ ألف جريح وإسـرائيل سقط منها ٦ آلاف قتيل و١٥ ألف جريح!.

وإذا جاز لنا أن نتتبع أرقام شـهداء القوات المسلحة في الحروب اللاحقة، فإننا لا نستطيع ان نتجاهل المعلومات التي وردت على لسان الفريق “محمد فوزي” وزير الدفاع الأسبق، الذى ذكر ان شهداء عدوان ٥٦ حوالي ٣٠٠٠ شخص أما الذين استشـهدوا فى نكسة ٦٧ فعددهم عشرة آلاف، وشـهداء حرب عام ٧٣ وصل عددهم إلى خمسة آلاف، الأمر الذي يعنى أن العدد الإجمالي للشـهداء منذ ١٩٤٨م حتى الآن عددهم لا يزيد على ٢٠ ألف شخص. الأمر الذي يدحض رقم المائة ألف شهيد ويُبين أنه لا أساس علميًّا أو تاريخيًّا له»!.[٤]..

أما ما أغفله الأستاذ في مقاله ولم يشأ التصريح به فهو البلاء العظيم الذي سببته مصر الرسمية بواسطة الأنظمة المتعاقبة على حكمها للقضية الفلسـطينية!.

وقد كتبت ذلك مفصلًا من قبل في عدة مقالات بداية من قيام الدولة العبرية في ١٩٤٨م بل حتى من قبل ذلك، حيث كانت مصر الملعب الرئيسي للوكالة الصـهيـونيـة في المنطقة ومن أمثـلة ذلك  التغلغل الصهيوني في مصر أن جريدة “السياسة” لسان حال حزب الأحرار الدستوريين، كتبت مستعدية السلطات المصرية ضد الفلسطينيين المقيمين في مصر، تهددهم بالطرد بتهمة إثارة الطائفية وتهييج الرأي العام للتعاطف مع ثورة البراق في فلسطين سنة ١٩٢٩م.. وبالفعل قامت الحكومة المصرية ممثلة في حزب الأحرار الدستوريين برئاسة “محمد محمود” بالقبض على عدد من الفلسطينيين والمصريين المتعاطفين مع القضية استرضاءً لليهود المصريين، ووصل التخاذل مداه بعد أشهر قليلة مع الحكومة الجديدة برئاسة “إسماعيل باشا صدقي”، حين قررت غلق جريدة “الشوري” الفلسطينية التي يصدرها من مصر الصحفي الفلسطيني والمـجاهـد الكبير “محمد علي الطاهر”!.[٥]..

ويكفي أن نعلم أن قرار التقسيم سنة ١٩٤٧م كان يكفل تقريبا نصف الأراضي الفلسـطينية للفلسـطينين (حوالي ١٢ ألف كم٢) ولكن الدول العربية بزعامة مصر رفضته وقررت دخول الحرب من أجل الدفاع عن التراب الفلسطيني.. وكانت النتيجة أن حصل الفلسـطينيون بعد نهاية الحرب وعقد الهدنة مع العرب، على حوالي ٢٢٪ فقط من كامل فلسـطين التاريخية (٦ آلاف كم٢ = الضفة والقطاع والقدس)![٦]..

وبالطبع لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن التضحية من أجل فلسطين من قريب أو بعيد في حربي العدوان الثلاثي ١٩٥٦م وتلك التي سعرّها “عبد الناصر” وانتهت بضياع الجولان السورية وسيناء المصرية وفوقهما الضفة وقطاع غزة والقدس الشـريف في يونيو ١٩٦٧م!..[٧]..

بناءً عليه فإن الأحداث على أرض الواقع تثبت دون شك أن من قدّم حياته من أجل القضية الفلسـطينية –من غير الفلسطينيين– أقل بكثير من نصف العدد الذي يموت سنويًّا في حوادث الطرق في مصر!..

وعلى الرغم من كل ذلك يجب علينا لاستكمال الصورة أن نختم المقال بما خلص إليه الدكتور العبقري “جمال حمدان” في نهاية كتابه الفريد شخصية مصر من أن «الكيف لا الكم سيبقى أبدا مفتاح مستقبل مصر جميعاً، في الحضارة، في العلم، في السكان، في الإنتاج.. إلخ، وكذلك سيظل الكيف لا الكم أساس وضعها ومكانها في الوطن العربي الكبير. غير أنه إذا كانت الزعامة والقيادة مسئولية تُمارس وواجبًا من القيادة يُحقق، فلعل الاختبار النهائي لزعامة مصر يكمن في مسئوليتها عن استرداد فلسطين للعرب، وإذا صَحّ أن نقول إنه لا وحدة للعرب بغير زعامة مصر، فربما صح أن نقول إنه لا زعامة لمصر بين العرب بغير استرداد فلسطين، لأنه لا وحدة للعرب أصلا دون فلسطين»!.[٨]..

وهو ما يوضح الارتباط المصيري جغرافيا وتاريخيا بين مصر وبوابتها الشرقية البالغة الأهمية الاسـتراتيجية فلسطين.. والذي ليس فيه أي مساحة أو مجال للمنّ والتفاخر بالبذل والفداء.. حيث لا يستطيع المرء أن يمنّ بما يصنعه لنفسه أولا قبل أن يكون للآخرين!..

كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف

١٧ يوليو ٢٠٢٣م /  ٢٩ ذو الحجة ١٤٤٤هـ

#معركة_الوعي_أم_المعارك !.

هوامش المقال:

[١] عصارة فكر وتجربة حياة، مقالات سعيد الأفغاني، صـ٤٦٢، مقال معاوية في الأساطير، طبعة دار البشائر، دمشق ١٤٣١هـ/٢٠١٠م

[٢] تقرير بعنوان: تضحيات مصر من أجل فلسطين.. فى ندوة بالإسكندرية، جريدة اليوم السابع، بتاريخ ١١ فبراير ٢٠٠٩م..

[٣] تقرير وكالة الـ CNN الإخبارية تحت عنوان «السيسي: قدمنا مائة ألف شهيد للقضية الفلسطينية ونرفض المزايدة ومبادرتنا بلا شروط»، بتاريخ ٢٣ يوليو ٢٠١٤م..

[٤] مقال: مصر وفلسطين..من يدافع عن من؟، فهمي هويدي، الشروق، ٢٩ يوليو ٢٠١٤م..

[٥] للمزيد يرجى مراجعة مقالي: ثورة حائط البراق بالقدس، بتاريخ ٢ أغسطس ٢٠٢٠م.. الرابط في التعليق الأول..

[٦] الحرب من أجل فلسطين، مجموعة باحثين، صـ٣٤، بإشراف يوجين روجان وآفي شلايم أستاذي التاريخ والعلاقات الدولية بجامعة أكسفورد، تعقيب إدوارد سعيد..

[٧] للمزيد يُرجى مقالي: مِن هدايا الانقلاب لدولة الاحتلال!.، بتاريخ ٣ يوليو ٢٠٢٣م، الرابط في التعليق الثاني..

[٨] شخصية مصر، د/ جمال حمدان، جـ٤صـ٦٦٥، طبعة دار الهلال

Please follow and like us:
قناة جريدة الأمة على يوتيوب