أقلام حرة

أحمد الشريف يكتب: فهمي هويدي وسبع سنين على الحظر من الكتابة!

راسلني أحد الأصدقاء من أصحاب القلم والعمل الصحفي معبرًا عن استياءه الشديد من تعريض الكاتب “محمد جلال القصاص” بالمفكر الإسلامي الأستاذ “فهمي هويدي” ولمزه أكثر من مرة، على صفحته الشخصية -بالفيسبوك- التي يتابعها المئات ممن يفترض فيهم الوعي وسلامة الفكر الديني. فلما دخلت عليها لتحري الأمر وجدت سطورًا قليلة وكلمات زهيدة ولكنها طافحة بالافتراء والتشويه وعدم الإنصاف!

ولقد منعت نفسي طويلاً من التفرغ لكتابة هذا المقال لأسباب عديدة منها أنني قمت بالرد قبل نحو عشرة أشهر على الاجتزاء والاختلاق الذي يفعله الدكتور “جلال القصاص” مع كتابات الأستاذ “عباس محمود العقاد”، في مقالين متتاليين، أولهما كان تحت عنوان: (العقاد وثقافة التدليس المبتورة!)

والآخر بعنوان: (هل لا يزال طلب الحقّ فضيلة؟!)

فخشيت أن يستنتج أحدهم من ذلك أن الأمر مجرد مسألة شخصية أو نحو ذلك من الأفكار الصغيرة والظنون التافهة!

ونويت الاكتفاء في الرد بوضع روابط مقالاتي السابقة في التعريف بالأستاذ “فهمي هويدي” ودوره العظيم في حماية الوعي والدفاع عن هويتنا الإسلامية ومجابهة خصومها من العلمانيين، والمتغربين والمتربصين بالدعوة والعاملين في ميادينها!.

ولكن للأسف لم أتمكن من ذلك حيث وجدت أن التعليقات موقوفة فقط على أصدقاء الكاتب وغير مسموحٍ لغيرهم بإبداء الرأي وكتابة وجهة النظر المختلفة.

وهو أمر غاية في السوء وآفة أصابت بعض الكتاب الذين يتصدرون للكتابة في الشأن العام، وبعضهم يدعو الحكومات للسماح بحرية الرأي والتعبير، وعدم مصادرة الآراء المعارضة وكيف أن الجريمة الكبرى لفرعون كانت في قوله:﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى..﴾ !.

فلما تكلمت مع أحد الأصدقاء عن ذلك نصحني بعدم الكتابة من باب “أميتوا الباطل بالسكوت عنه”. وهي العبارة التي رويت بنحو معناها عن “عمر بن الخطاب” -رضي الله عنه- الذي قال: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يُمِيتُونَ الْبَاطِلَ بِهَجْرِهِ، وَيُحْيُونَ الْحَقَّ بِذِكْرِهِ»..

فأجبته أني متفقٌ معه، ولكن كيف نُميت الباطل إذا كان الناس لا يدرون أنه باطل وخاصة إذا صدر من رجل محسوب على أهل الحق وله جمهور يقرأ ما يخط قلمه ويأخذ برأيه؟!.

ومن أسباب عزوفي عن الرد أيضا أنني كنت قد “آليت على نفسي” خلال الفترة الماضية التفرغ للكتابة عن الشأن الفلسطيني وعدم شغل الناس بغيره إلا في أضيق الحدود. ولكن وجدت أن مدار اللمز والتشنيع والتحذير من القراءة للأستاذ “فهمي هويدي” في كلام الكاتب، هو عودته للظهور بعد غياب طويل بسبب تصاعد الدور الإيراني في المنطقة، حيث يعدّ “فهمي هويدي” أحد أذرعتها الإعلامية على حد زعمه!.

ولا أدري هل يتجاهل الكاتب أم يجهل أن الأستاذ “فهمي هويدي” ظهر في الإعلام في مرات قليلة لا تتجاوز أصابع اليدين على مدار السنوات السبع الماضية منذ تم منعه من الكتابة، على قنوات قطرية وتركية ولم يكن لها علاقة بالشأن الإيراني في معظمها وإن كانت القضية الفلسطينية هي القاسم المشترك الأكبر فيها جميعاً.

وهذا هو الدافع القوي الذي حفزني لكتابة المقال أن الأمر يتعلق بفلسطين وقضيتها التي جعل الأستاذ فهمي هويدي من الانحياز إليها معيارًا للانتماء الوطني والصلاح الديني.

وقد كان آخر ما كتبه الأستاذ قبل الحظر من الكتابة في ٢٩ يونيو ٢٠١٧م/ ٥ شوال ١٤٣٨هـ هو مقال تحت عنوان “أيجوز التعاطف مع غزة؟”.. ولم يكتب أي شيء من بعدها سوى مقدمة لكتاب صدر مؤخراً تحت عنوان: الملحمة الفلسطينية لمجموعة من الكُتّاب المصريين والعرب قائلا فيها بكل تواضع:

«لو خُيّرتُ في وقت مبكر قبل اقتراح كتابة هذه المقدمة، لآثرت الانضمام إلى “كتيبة الأربعين” من المثقفين العرب الذين اصطفوا إلى جانب أبطال السابع من أكتوبر واختاروا أن يرددوا

مع الملايين بصوت عال الشعار “كلنا فلسطينيين”.

 وينبغي أن نحمد لتلك الكتيبة من حملة الأقلام العرب، حماسهم النبيل حين اختاروا أن يخترقوا جدار الصمت والحصار، فقرروا أن يعلنوا على الملأ موقفهم، مؤكدين على مكانة فلسطين الراسخة في قلب الأمة وضميرها..»..

أما حديث الأستاذ “فهمي” وغيره من المحللين الموضوعين المنصفين عن “إيران” فهو تقرير واقع وشرح حقيقة ماثلة لكل ذي عينين. وهل هناك من يحارب أو يطلق قذيفة واحدة ولو في الهواء ضد العدو الصـهيوني دعمًا للمقاومة الفلسطينية إلا إيران وأذرعها في اليمن ولبنان؟!.

وأنا هنا لا أتعجب من ممارسة الكاتب “جلال القصاص” للاجتزاء والتركيز على دقائق تحدث فيها الأستاذ عن الجانب الإيراني وإغفال ساعات من الحديث عن غيره من الجوانب، فهذا أمر معتاد عليه وقد سبق له أن اختزل كل انتاج الدكتور “محمد عمارة” الفكري، ونسبه إلى المعتزلة حتى يلمز في عقيدته!.

وهذا لعمري نفس ما فعله التيار السلفي –المحسوب عليه الكاتب– من تشويه للدكتور محمد عمارة والأستاذ فهمي هويدي ووضعهما في خانة الأقلام الساقطة في ميزان الإسلام، كما نرى عند مطالعة كتب الدكتور “سيد العفاني” وغيره!.

وذلك على الرغم من نجاح الأستاذ الباهر في التصدي بعمق وبراعة إلى ما عجز عنه الكثير من الفقهاء والدعاة من الرد على شبهات العلمانيين والكارهين الذين أرادوا ضرب الهوية الإسلامية وزعزعة الثقة في صلاحية شريعة الإسلام لقضايا العصر الحديث كما جاء في كتبه “تزييف الوعي”، و”المفترون ..خطاب الغلو العلماني في الميزان”، و”حتى لا تكون فتنة”، مما دعا الإمام “جاد الحق علي جاد الحق” شيخ الأزهر، إلى أرسال خطابٍ للأستاذ “هويدي” يقرّ فيه بفضله وعظيم جهوده وحسن رباطه على ثغرة كبيرة من ثُغر الإسلام، والذي نقتبس منه السطور الآتية:

«لقد سرني وأثلج صدري محتوي هذه المقالات.. سلمت وسلم قلمك.. وإن أمن الأمة في حاجة إلى مواجهة جادة لهذا الفكر، الذي يشيع الفتنة، وذلك واجب أهل العلم وأصحاب القلم.. وفقك اللّه لقول الحق ونشره، وأثابك وأمدك بروح من عنده..»..

وهي شهادة نادرة التكرار في العمل الصحفي، فقد كان الأستاذ من القلة القليلة في مجال الإعلام، الذين اهتموا بدراسة كتب التراث والفقه الإسلامي بوعي واستيعاب ندر مثيله، وهو ما نجد أثره في العديد من كتاباته التي ذكرناها سابقاً ونضيف إليها كتب “أزمة الوعي الديني”، و”الإسلام والديمقراطية”، و”التدين المنقوص” التي خاض فيه معاركه على ثلاث جبهات في آن واحد!.

أولها جبهة الناقدين للإسلام، وثانيها المتربصون بالعاملين في ميدان الدعوة، أما الثالثة فضد فصائل المتدينين أنفسهم، الذين امتلأت قلوب أكثرهم بالإيمان، ولكن وعيهم بحقائق الدين ومقاصده تشوبه شوائب عدة، وهو ما أسماه التدين المنقوص!

حيث تصدى بضراوة وذكاء لأهل الجمود والتزمت السلفي وعلماء السلطان الذين استهدفوا تفريغ الإسلام من جوهره وحصره في العقيدة والعبادات دون الشريعة والمعاملات، والذين نفّروا الناس من الإسلام حيناً وعسّروه عليهم حينا، وفي أحيان أخرى كثيرة، حتى أقاموا خصومة غير مبررة بين الإسلام وبين الحاضر والمستقبل!..

ولا أدري عن أي “مال” يتحدث الكاتب “جلال القصاص”، فالأستاذ لم يكن يوما من أصحاب الثراء والباحثين عن المادة وقد كان في استطاعته أن يجني أكثر بكثير مما حصل عليه من هم أقل موهبة وقيمة مثل إبراهيم سعدة وإبراهيم نافع وسمير رجب وأمثالهم من أباطرة الصحافة في عصر مبارك. وقد كان نادر الظهور في الإعلام المرئي أو حتى المشاركة في حفلات أهل الفن والمشاهير من الأدباء والكتاب والمثقفين التي كان يعقدها رجال الأعمال وبعض الأمراء ورجال الدولة في البلدان العربية المختلفة..

وهل لو كان للمال أي قيمة عند الأستاذ كما عرّض به الكاتب “جلال القصاص”، هل كان الأستاذ “هويدي” سيكتب فقط من أجل القارئ بكل احترام يمليه عليه ضميره المهني وعقيدته الإسلامية، مصححًا للوعي ومحاربا للفساد والاستبداد ومنتصرا لقضايا الأمة ومصالح شعوبها التي كانت تتعارض دون شك مع توجهات الأنظمة العربية المختلفة، وتحمل في سبيل ذلك الكثير من التضييق وحذف مقالاته بصورة كبيرة حتى جاوزت الثلاثين مقالًا من منتصف الثمانينيات حتى سنة ١٩٩٧م، جمعها في كتابه الشهير المقالات المحظورة.. قبل أن يقوم بترك الأهرام والخروج من أكبر وأعرق جريدة عربية بسبب زيادة مرات الحظر التي تكررت بصورة مبالغة بسبب خشية إدارة الأهرام من إغضاب النظام سنة ٢٠٠٨م!.

وربما يرد البعض بأن الدخل الأكبر للأستاذ كان من جريدة الشرق الأوسط السعودية التي كانت تداوم على نشر مقالاته، وهذا سخف وعدم معرفة بالكاتب الذي هاجم السعودية في أكثر من مناسبة بسبب سياساتها الفاسدة. ومنها ما كتبه في آخر مقالاته فاضحًا النظام السعودي بسبب تصنيف وزير الخارجية “عادل الجبير” حركة حـماس ضمن المنظمات الإرهـابية، وحربها التعيسة على اليمن وحصارها الجائر ضد قطر وخطواتها الواسعة تجاه التطبيع مع إسـرائيل!.

وإن مما يثير الغثيان أن يقول الكاتب إن الأستاذ “فهمي هويدي” “سكت” ثم يضرب المثل بسمير رجب رمز النفاق والفساد الصحفي، وقد تم منعه وحظره على كافة الأصعدة رغم قيمته في الصحافة العالمية –التي يجهلها الكثيرون في مصر بكل أسف– بعد أن زادت حدة انتقاده لحاكم مصر الذي أدخلها فى نفق مظلم بعد تمرير اِتفاقية تيران وصنافير، وتزايد مؤشرات قمع الحريات وملاحقة النشطاء، مع استمرار الاحتفاظ بنحو ٦٠ ألف شخص فى السجون اتهموا فى قضايا سياسية منذ عدة سنوات!.

للدرجة التي جعلته يكتب في ٢٥ يونيو ٢٠١٧م، الموافق أول أيام عيد الفطر ١٤٣٨ه‍ـ، تحت عنوان: مواهب الزعيم مقالًا ساخراً من “السيسي” بصورة غير مباشرة، أورد فيه قصة خرافية تحكي عن “ملاك الموت” الذي ذهب إلى رجل يحتضر يغريه بأخذ روحه ليعطيها إلى مولود سوف يصير حاكمًا لشعبه!.

فقال الرجل: الفكرة ممتازة، إذ لا أشك فى أن وجهه ستحيط به هالة من نور، والزعامة منقوشة عليه وستظهر ملامح عبقريته وهو طفل!.

لكن الملاك حين راجع البيانات الموجودة لديه هز رأسه أسفاً، وقال ليس الأمر كذلك، إذ لن تظهر عليه تلك العلامات، لأنه ستعتريه بضع أمارات من البلاهة في الصغر!.

فقال الرجل المحتضر: إذاً فالنباهة ستبدو عليه فى مراحل الدراسة فيما بعد؟.

فردّ الملاك: بالعكس تماما، لأنه سوف يتعثر فى دراسته، وقد يرسب فى بعض صفوفها، لذلك فإن زملاءه سوف يصفونه بالغباء!.

< لابد أنه سيكون بهي الطلعة مهيب الجانب وممشوق القوام.

ــ بل سيكون قصيراً وعليلا ومثيراً للعطف والتهكم من قبل زملائه!.

< إذا ستبدو عليه علامات الزعامة حين بلوغه ودخوله المرحلة الجامعية، فيغدو قائدا طلابيًّا شجاعًا وملهمًا يلهب الرفاق حماسة.

ــ أبدًا، فكثيراً ما سيحتقره زملاؤه لفرط جبنه ووضاعته!.

< سيكون ذرب اللسان قوى البيان محسودا بين أقرانه.

ــ انس مسألة البيان، لأنه ما إن يتفوه بشىء حتى يثير التندر والسخرية!.

< لابد أن عبقريته ستنبثق فى الحياة العامة بعد الدراسة، فتتفتق شهامته ونبله وشجاعته وكل الصفات العظيمة التى تليق بزعيم.

ــ لا شىء مما تذكره إطلاقا، والكثير من عكس ذلك هو الصحيح!.

عند ذلك الحد فاض الكيل بالمحتضر، واستشاط غضبا وحيرة فقال ضجرا: إذا بالله عليك، كيف سيصير ذلك الفاشل الكريه زعيما يقود قومه ويتحكم فى مقاديرهم؟!.

تركه الملاك حتى سكن، ثم قال له بهدوء وبرود: لا عليك، بعد أن يصير زعيما، ستنهال عليه المدائح وسيكون كل ما ذكرته من الصفات الفريدة صحيحا، بل أكثر!..

فهل يجوز بعد ذلك أن يوضع الثرى بجوار الثريا ؟!.

والأنكى من ذلك الادعاء بأن تأثير الأستاذ “فهمي هويدي” قد انتهى حين توقف عن الكتابة وذهبت ريحه!.. وهو طرح في غاية السذاجة لن أتوقف عنده كثيرًا، ولكن ولأن ضرب الأمثال من أساليب التربية الناجحة، فسوف أذكر هنا ما حدث مع الصحفي والمفكر الإسلامي الكبير مؤسس ومدير تحرير سلسلتي “مجلة الأمة” و”كتاب الأمة”، الأستاذ “عمر عبيد حسنة” الذي كان ملء السمع والبصر في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. ولكن لا تجد أحداً يذكره في أيامنا هذه إلا في القليل النادر!.

ومع ذلك سوف يظل أثر الرجل وتأثيره رقمًا صعبًا لا يمكن أن يهمله من يدرس المشروع الفكري والثقافي للأمة الإسلامية في وقتنا المعاصر.. ولقد جُمعت مقالاته ودراساته ومقدماته وجميع إسهاماته في عمل موسوعي ضخم مكون من عشر مجلدات تحوي أكثر من ستة آلاف صفحة طبعها “المكتب الإسلامي” ببيروت في سنة ١٤٣٢هـ/ ٢٠١١م، حرصاً على حفظها وعدم ضياعها وسط الكم الهائل من أوراق الصحف اليومية ومئات الأعداد من المجلات والدوريات!.

وكذلك سوف تبقى مقالات الأستاذ “فهمي هويدي” وكتبه علامة فارقة ومراجع لا بُدَّ من مطالعتها من كل باحث ومحلل لهذه الحقبة من تاريخ مصر والمنطقة، وإن خير ما فعلته جريدة الشروق أن حفظت مقالاته البالغة نحو ٢٥٠٠ مقال كتبها منذ عام ٢٠٠٩م وحتى الحظر من الكتابة، وأتاحتها على موقعها بصورة دائمة.

{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾

كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف

٤ يوليو ٢٠٢٤م / ٢٨ ذو الحجة ١٤٤٥هـ

#معركة_الوعي_أم_المعارك ..

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى