إطلالة على تاريخ أفغانستان
في أكتوبر 1963 قال رئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان لخلفه في المنصب أليك دوغلاس هيوم: “بني العزيز، ما دمت لا تغزو أفغانستان، فأنت في خير حال”.
لم يتعلم الروس ولا الأمريكان هذا الدرس من المسؤول البريطاني المخضرم، فتعرضت كلا الإمبراطوريتين الكبيرتين لهزيمتيْن مُذِلَّتَيْن، رغم الفارق الضخم غير المسبوق في ميزان القوى بين الطرفيْن، ولهذا فقد صدر عن كلٍّ منهما أقوال شبيهة بمقالة المسؤول البريطاني، بعضها كان صريحا، وبعضها غُلِّف بزخرفات سياسية معتادة.
يعني اسم “أفغانستان”: أرض الأفغان، وهي مثل كثير من الدول الإسلامية لا تعبر حدودها الحديثة عن تاريخها العريق، إذ لا تزال الدول الحديثة تعاني من ملامح التشوه والاقتطاع التي نتجت عن الاستعمار الأوروبي في قرنيْ تفوقه: التاسع عشر والعشرين، ثم عن الصراعات الغربية التي تسابقت فيها المشاريع الكبرى للسيطرة على موارد الشعوب وعلى الطرق التجارية والمضايق المائية ونحو ذلك.
ولهذا يضطر كُتَّاب التاريخ في أغلب الأحيان أن يتعاملوا مع التاريخ الإسلامي العريق لهذه المناطق بشكل أغلبي، يتناول تاريخ المجتمعات التي عاشت والقوى التي سيطرت على الأجزاء الأكبر من المساحة الحالية المعروفة باسم هذه الدولة، وذلك ما سنفعله الآن.
تمثل المساحة الحالية التي تشغلها أفغانستان موقعا حيويا تلتقي عندها، تبدأ وتنتهي المشاريع الكبرى، فحين ننظر إلى الخريطة المعاصرة نرى أن أفغانستان تقع في القلب تماما من المشاريع: الصينية والهندية والروسية (السوفيتية سابقا) وهي من ثم البوابة الشرقية للعالم الإسلامي، في ظل الاحتلال الصيني المستمر لتركستان الشرقية، والذي قَلَّص عمليا حدود العالم الإسلامي ليقف عند أفغانستان.
لقد كانت الفتوحات الإسلامية –كما يقول ول ديورانت- “أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله”، وذلك لسرعتها الصاعقة التي جعلت منطقة مثل أفغانستان ترى الجيوش الإسلامية المنطلقة من الجزيرة العربية بعد سبع سنوات فقط من وفاة النبي محمد ﷺ، استطاع فيها المسلمون إزالة الدولة الساسانية الفارسية العريقة، وأخذوا في التمدد إلى ما ورائها، لهذا بدأ دخول الإسلام إلى مناطق أفغانستان الجنوبية والغربية منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، كانت تلك المناطق جزءا من البلاد التي عرفت قديما باسم “خراسان”. وعندما قُتِل الخليفة الثاني في المدينة المنورة، وقعت بعض الاضطرابات في أطراف الدولة الإسلامية الشاسعة التي تمددت حينها من أفغانستان إلى تونس، ولكن سرعان ما استعادت الدولة الإسلامية قوتها، وأعيد فتح المناطق المضطربة والإضافة إليها في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فدخلت في عهده مدن بلخ وغزنة وسجستان والجوزجان.
ثم جاءت الموجة الثانية من الفتوحات الإسلامية في الدولة الأموية، والتي وصلت إلى مدينة كاشغر (عاصمة تركستان المحتلة الآن من قبل الصين)، وفيها دخلت مناطق وسط آسيا كلها في نفوذ الدولة الإسلامية.
ولما سقطت الخلافة الأموية التي اتخذت دمشق عاصمة لها، ورثتها الخلافة العباسية التي اتخذت من بغداد عاصمة لها، كان هذا التحرك إلى الشرق مما رسَّخ الوجود الإسلامي في المناطق الشرقية، من العراق وحتى الصين، فمهما ضعفت الخلافة العباسية المركزية، فإن الأسر المحلية التي تقاسمت السيطرة في تلك الأنحاء الواسعة كانت تحتفظ بثقافتها الإسلامية، بل هي قد أمدَّت الثقافة الإسلامية بعدد وافر هائل من العلماء والأدباء والشعراء والأمراء والمجاهدين. وفي هذه الأثناء أتمّ المسلمون فتح المناطق الشرقية والشمالية من أفغانستان، على يد أمراء محليين مثل يعقوب الصفار الذي أتم الفتح النهائي لكابل.
ومن بين هذا الحشد الطويل من الأسر الحاكمة، ستبرز بعض المدن الأفغانية التي كان لها نصيب خاص من إمداد التاريخ الإسلامي بأبطال كبار، وكانت منطلقا لدول عظيمة.
في طليعة هذه المدن: مدينة غزنة التي سُمِّيت “الدولة الغزنوية” نسبة إليها، وهي الدولة التي إذا نظرنا إليها بالمنظار المعاصر اعتمادا على الحدود المعاصرة، فيمكن أن نطلق عليها: أول دولة أفغانية إسلامية.
استطاع أمير تركي منحدر من نَسْلِ والي مدينة غزنة التابعة للدولة السامانية الكبيرة، أن يقوي مركزه في مدينة غزنة، ذلك هو سبكتيكن الذي صار أحد أقوى أمراء الدولة السامانية بينما هي آخذة في الغروب، فكان سيفها الذي حاربت به الدول المناوئة في محيطها، كما أنجز عمليات توسع قوية في الأراضي الهندية، فوق إحكام سيطرته على بلاد الأفغان، ثم ورثه بعد ذلك ابنه محمود الذي كان ذروة الدولة الغزنوية، وهي التي ورثت القسم الجنوبي من الدولة السامانية الآفلة، ومحمود هذا هو فاتح الهند، الذي يلقبه بعض المؤرخين المسلمين بعمر بن الخطاب الثاني لقوته واتساع فتوحاته في الهند، ويحظى في التاريخ الإسلامي بمكانة عظيمة لفتحه الهند وقضائه على الدولة البويهية (وهي دولة شيعية سيطرت على الخلافة العباسية السنة لأكثر من قرن) في أقاليم المشرق، وعندما مات محمود (421هـ)، كانت دولته من أوسع دول عصره، ومن أهم الدول التي شهدها تاريخ الإسلام. وكان موته بداية تضعضع دولته وانحدارها حتى انهارت تماما (582ه = 1186م).
آلت أملاك الدولة الغزنوية في أفغانستان والهند إلى الدولة الغورية، وهي الدولة الثانية الكبرى التي تُنسب إلى مركز في أفغانستان، وذلك أن الغوريين كانوا يحكمون المنطقة الممتدة بين مدينتي هراة وغزنة، وكان مركزها في قلعة “فيروز كوه”، فكانوا أول الوارثين لأملاكها الأفغانية، ثم كان لهم جهادهم في تثبيت النفوذ الإسلامي في الهند والقضاء المبرم على دولة الأمراء الراجبوتيين (579ه = 1200م)، واستعادة الأجزاء التي تمردت في أقاليم السند (معظم باكستان الحالية)، وفتحوا بلاد البنغال، وقد اتخذوا من دلهي عاصمة لهم، فكانوا بذلك أول دول الإسلام في الهند، وبهم استقر الإسلام في الهند حتى انتهى على يد الاحتلال البريطاني مطلع القرن التاسع عشر.
بعد هاتين الدولتيْن –الغزنوية والغورية- عادت أفغانستان لتكون جزءا من ممالك إسلامية أكبر وأوسع، فقد كانت جزءا من الدولة الخوارزمية الكبيرة التي امتدت من تركستان الشرقية وحتى حدود العراق، وهي الدولة التي انهارت أمام العاصفة المغولية التي أطلقها جنكيز خان، والتي اجتاحت أفغانستان، ودفعت في مقاومتها ثمنا هائلا من تدمير المدن الكبرى والحواضر الثقافية والعلمية مثل هراة وبلخ وقندهار وغزنة، ولما مات جنكيز خان وانقسمت الدولة المغولية الكبيرة كانت أفغانستان جزءا من “الدولة الإيلخانية الفارسية”، وآل حكم الجزء الأكبر من أفغانستان المعاصرة إلى أسرة محلية من الطاجيك تعرف بالأسرة الكرتية.
وما إن بدا أن هذه الأسرة ستحقق نوعا من الاستقلال الفعلي في أفغانستان، حتى جاءت العاصفة المغولية الثانية على يد الأمير الأشهر تيمور لنك، وهي العاصفة التي عصفت بحكم الأسرة الكرتية، ودفعت أفغانستان ثمنا عظيما أمام تيمور لنك الذي طواها تحت ظل إمبراطوريته التيمورية، ووضع حفيده حاكما على المنطقة التي تشمل كابل وغزنة وقندهار.
في هذه الأثناء كان المغول قد دخلوا في الإسلام، وأنشؤوا نسخة جديدة من الحضارة الإسلامية المغولية في تلك الأنحاء، فالدولة الإيلخانية الفارسية كانت تعلن بالإسلام، لا سيما في عهد ملكها القوي محمود قازان ومن خلفه، وكذلك تيمور لنك كان يرى نفسه سلطانا مسلما، وإن كان أكثر العلماء يطعن في ذلك ولا يقبله منهما، وتلك تفاصيل لا يتسع لها المقام هنا، لكن المقصود أن النظرة العامة تفيد بأن كل هذه التقلبات التي جرت على أفغانستان والمنطقة إنما كانت تجري تحت الإقرار العام بسلطان الإسلام وبالثقافة الإسلامية التي تجذرت حتى سادت وغطت على ما سواها، وهذه الهيمنة للثقافة الإسلامية لا تمنع من بقاء الثقافات الأخرى لما عُرِف عن الإسلام من سماحة فريدة واعتراف بالديانات والمذاهب الأخرى، والتي لا تزال باقية حتى الآن في كافة أنحاء العالم الإسلامي.
تناوبت على أفغانستان الدول اللاحقة التي تنازعت المنطقة والسيطرة عليها مثل الصفويين وخصومهم، لكن اللافت للنظر هو أن أفغانستان سجَّلت واحدة من أطول فترات الاستقلال والحكم الذاتي ضمن الإمبراطوريات الكبيرة التي كانت لها السيادة عليها، ويظهر هذا بالاطلاع على أي مخطط تاريخي للأسر الحاكمة في المنطقة. ففيما عدا الفترات القصيرة نسبيا تحت حكم الخوارزميين والمغول والتيموريين، كانت أغلب الأجزاء تتمتع بحكم أسرة محلية وإن كانت تؤدي الاعتراف الرسمي والشكلي للمملكة الكبيرة. وبداية من 1740م عاشت أفغانستان تحت حكم مستقل حتى ظهرت، ولأول مرة، الجيوش الأوروبية.
كانت الإمبراطورية الإنجليزية قد تسللت إلى الهند، في القصة المعروفة التي كان بطلها شركة الهند الشرقية، ومن هناك تطلعت إلى مدّ نفوذها في الهند وفيما يليها من أقاليم السند (باكستان) والبنغال وأفغانستان، فدخلت على خط الصراع بين الأمراء المحليين المتنافسين على الحكم، ووقعت الحروب الأفغانية الإنجليزية الثلاث المشهورة، في مراحل متعاقبة (1839 – 1842م)، (1878 – 1880م)، (1919م). وبينما كانت إنجلترا تحاول أن تتمدد من الجنوب كانت الإمبراطورية الروسية القيصرية تحاول بدورها أن تتمدد من الشمال، مما جعل الحاكم الأفغاني بين ناريْن، ومضطرا أن يستعين بأحدهما على الآخر.
كان الإنجليز أسبق إلى أفغانستان من الروس، ولذلك فقد كانوا الأكثر تعرضا وتضررا من المقاومة الأفغانية الباسلة والمستمرة، إن المنطقة التي عاشت في الإسلام اثنا عشر قرنا لم تفكر قط في الاستسلام للغزاة المحتلين، لقد ترسخت فيهم العقيدة الإسلامية إلى الحد الذي صار يستحيل اقتلاعها أو حتى تخديرها.
دخل الإنجليز إلى كابل لأول مرة (1255ه = 1839ه) لإعادة الأمير شجاع الملك إلى الحكم ضد غريمه دوست محمد، وبينما ينسحب الجيش الإنجليزي خارجا إذ يفاجأ بانقضاض أفغاني عنيف قُتِل فيه حليفهم شجاع الملك، وكاد أن يباد الجيش، وأعيد دوست محمد إلى الحكم، وقضى فيه نحو أربعين سنة حاول فيها تجنب احتلال إنجليزي آخر، حتى مات وتولى الحكم بعده ابنه شير علي الذي اضطر أن يستعين بالروس لمواجهة الضغط الإنجليزي المتصاعد، فكان ذلك ذريعة إنجليزية لشن حرب جديدة على أفغانستان، عرفت بالحرب الأفغانية الإنجليزية الثانية (1878 – 1880م)، واضطرت للانسحاب مرة ثانية تحت ضغط المقاومة الأفغانية الباسلة التي راح ضحيتها الوزير الإنجليزي (المندوب السامي)، وبدأت مرحلة جديدة من النزاع الروسي الإنجليزي على أفغانستان، وهو النزاع الذي يتقوى ويتداخل ويشتعل من خلال الحلفاء والخصوم الداخليين للأمراء الأفغان، وهو الأمر الذي انتهى إلى اتفاقية روسية إنجليزية (1907م) تقضي باستقلال أفغانستان، وترسم حدود السيطرة الروسية في آسيا الوسطى وبين أفغانستان.
ظلت الهيمنة الإنجليزية مختبئة وراء ستار محلي، كما هي العادة الإنجليزية في إدراتها لمستعمراتها، مع السعي الحثيث لتحديث الدولة وترسيخ النظام المركزي ونشر عملائها وصنائعها في المواقع النافذة، وهو الأمر الذي قابله الأفغان دائما بالمقاومة، حيث طالت أيديهم هؤلاء الأمراء والملوك المنحازين للإنجليز، سواء باغتيالهم أو بالانقلاب عليهم ودعم خصومهم.
عندما بلغت الإمبراطورية البريطانية شيخوختها مع انقضاء الحرب العالمية الثانية، كان الروس يجددون قوتهم من خلال المارد السوفيتي الصاعد، وكانت كلا الإمبراطوريتين تفرضان نمطا ثقافيا يناقض الإسلام، ولكن الخفوت الإنجليزي ترك فراغا ملأه الصعود السوفيتي، فانتقلت النخبة الأفغانية المتغربة عبر فصول طويلة ومتشابكة ومعقدة إلى الجناح السوفيتي، وبقي الشعب يخط فصول مقاومته الصبورة العنيدة التي لا تعرف اليأس، والتي تثمر في كل محطة من محطاتها تهديدا خطيرا تشعر به الإمبراطورية العظمى، وذات ليلة قررت الإمبراطورية السوفيتية أن تنزل بجيوشها الهائلة إلى أفغانستان.
لم يتوقع أحدٌ أن يصمد المقاتلون الأفغان البسطاء للقوة العظمى التي تقتسم العالم مع الأمريكان، ولكن المفاجأة وقعت من جديد، وبعد بضعة أعوام بدا وكأن الوحش السوفيتي قد سُحب من عليائه ليتورط في مستنقع صغير في المشرق اسمه أفغانستان، وعندئذ، سعت الإمبراطورية المنافسة (الأمريكان) إلى تسهيل الدعم الواصل إلى أفغانستان، من بعد فصول طويلة ودامية تشبث فيها الأفغان بأرضهم وحقوقهم، حتى كتبت نهاية الإمبراطورية السوفيتية بيد أفغانية في أفغانستان، وبأيادٍ كثيرة –كان الأفغان في طليعتها- في بقية العالم.
انفردت أمريكا بالسيطرة على العالم منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، فيما كان الأفغان يلعقون جراحهم ويحاولون استعادة بلادهم، وفي تطور غير متوقع لفصول الصراع العالمي استطاعت أفغانستان أن تكون بؤرة الأحداث العالمية من جديد!
استطاع الأفغان عبر فصائلهم العديدة إخراج السوفييت من أرضهم، لكن انقسامهم الداخلي الذي لعبت عليه أطراف دولية وإقليمية كثيرة منعهم من الوصول إلى اتفاق لإدارة البلد بعد رحيل الاحتلال، فاندلعت حرب أهلية بأموال خارجية وأرواح أفغانية، وبينما بدا الأفق مسدودا لا يبشر بنهاية صالحة، انبثقت حركة صغيرة جديدة من طلبة العلوم الشرعية قادها طالب علم صغير السن اسمه الملا محمد عمر، وفي تفوق مفاجئ ومدهش استطاعت الحركة أن تسيطر على معظم أفغانستان وأن تعيد إليها الهدوء والأمان، وأن تجد عمقا سياسيا في باكستان التي كانت لها أسباب متعددة أخرى تجعلها تراهن على طالبان.
وفي تلك اللحظة كان العديد من المقاتلين العرب الذين قاتلوا في أفغانستان تلبية لواجبهم الديني، واستفادة من التسهيلات التي قدمتها لهم بلادهم للسفر إلى أفغانستان، ضمن المحاولة الأمريكية لإسقاط السوفييت، كان العديد من هؤلاء قد وُضِعوا في السجون لأنهم جاهدوا بإذن هذه الحكومات نفسها!! مما اضطر كثيرا منهم إلى التفرق في البلاد، ثم لما استقرت أوضاع أفغانستان تحت حكم الملا عمر وجد فيها هؤلاء ملاذا آمنا! وشعر الملا عمر بضرورة الوفاء لهؤلاء الذين جاهدوا مع شعبه وطاردتهم حكوماتهم، فاحتضن اللاجئين منهم.
من بين هؤلاء اللاجئين أسامة بن لادن، وعدد من قيادات الحركات الإسلامية من مختلف بلدان العالم، وجد هؤلاء أنفسهم قريبا من بعضهم، شكلوا جماعة جديدة عرفت باسم “القاعدة”، تشكل فكر هذه الجماعة من التجربة الأفغانية نفسها، لقد كانت الشيوعية خطرا داهما على سائر العالم الإسلامي، ثم إنها انقشعت فجأة حتى كأنها تبخرت من كل البلاد الإسلامية حين هُزِم الاتحاد السوفيتي. كان الدرس البسيط يقول: اضرب رأس الحية.
والحية التي يراها العالم الإسلامي في ذلك الوقت هم الأمريكان، الذين يدعمون إسرائيل التي تحتل ثالث المقدسات الإسلامية، ويحاصرون العراق وأفغانستان، ويقيمون قواعدهم العسكرية في أقدس الأماكن الإسلامية، وينشرون القيم الأمريكية المناقضة للإسلام في كل مكان. وإذن، فطبقا للتجربة الأفغانية: ضرب الأمريكان في بلدهم يساوي انقشاع الأمركة والليبرالية من كل العالم الإسلامي.
لم يوافق الملا عمر على أن يمارس أسامة بن لادن أي عمل من داخل أفغانستان، ولكن أسامة رأى أن الحلم قريب وأنه لا بد من المحاولة، وأمريكا من جهتها لم تقصر في المجاهرة بالعداوة لأفغانستان ومحاصرتها والتهديد الدائم باجتياحها. وهكذا كانت النتيجة هي أحداث سبتمبر.
لم تكن الطعنة الغائرة في الهيبة الأمريكية أمرًا سهلا، ولكن الأفغان الذين ترسخت فيهم قيم الإسلام والوفاء للضيف واللاجئ لم يكونوا أقل صلابة وإصرارًا، كانت المطالب الأمريكية المعلنة: تسليم بن لادن وتفكيك المعسكرات وطرد الإرهابيين وإلا فهي الحرب، وقال الملا عمر: قدموا الأدلة على أن بن لادن هو الذي فعلها، ونقيم محكمة إسلامية محايدة له، وسأل أيضا: هل يضمن أحد ألا تغزو أمريكا أفغانستان إذا نُفِّذ لها ما طلبت؟! وهو السؤال الذي لا يملك أحد إجابته.
ما كان الصلف الأمريكي بأقل من الصلابة الأفغانية، وحدث ما هو معروف من الحشد العالمي لإنهاء حكم طالبان، وفي الأيام الأولى وجدت طالبان أن القوة النارية تفوق كل قدراتها، فقررت أن تنسحب وتشن حرب عصابات، سيكون النصر فيها للأصبر والأصلب. وبعد عشرين عاما من هذا التاريخ (2001 – 2021م) أثبتت طالبان أنها الأصبر والأصلب، وخرج القوات الأمريكية من أفغانستان لتكرر سيرة الإمبراطوريات المهزومة في هذه الأرض العنيدة.
* نشر هذا المقال في العدد الأخير من مجلة zur zeit الناطقة بالألمانية، والتي تصدر في النمسا