تقاريرسلايدر

إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بين أحلام ترامب وتحديات الأمر الواقع

منذ بداية الألفية الثالثة، دخلت المنطقة العربية مرحلة من التحولات الاستراتيجية العميقة، بفعل تفاعلات داخلية مضطربة وتدخلات خارجية آخذة في التصاعد. وفي هذا السياق، جاءت الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنطقة، وخاصة إلى المملكة العربية السعودية في مايو 2017، كمحطة فارقة أثارت تساؤلات واسعة حول مستقبل الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط. فالزيارة لم تكن مجرد إجراء دبلوماسي روتيني، بل حملت معها رؤى ومشروعات سياسية كبرى، في مقدمتها ما عُرف لاحقًا بـ”صفقة القرن”، والتي مثلت تحولًا واضحًا في طبيعة التعاطي الأمريكي مع قضايا المنطقة.

“وانطلاقًا من تلك المعطيات، تسعى هذه الدراسة إلى تقديم قراءة تحليلية شاملة لاحتمالات إعادة رسم خريطة المنطقة العربية في ضوء تلك الزيارة، وذلك من خلال تحليل السياقات السياسية والاستراتيجية المرتبطة بها، واستكشاف الأدوار الإقليمية والدولية المؤثرة في إعادة تشكيل التوازنات داخل الإقليم.

السياق العام للزيارة والسياسة الخارجية لترامب

وفي هذا الإطار، تبنّت إدارة ترامب سياسة خارجية قائمة على مبدأ “أمريكا أولًا”، ما انعكس في شكل تحالفات براغماتية مع القوى الإقليمية الفاعلة، ودعم غير محدود لإسرائيل، وتجاهل لمنظمات دولية متعددة الأطراف. وجاءت زيارته للسعودية كأول محطة خارجية له، في دلالة واضحة على حجم الرهان الأمريكي على محور الرياض–تل أبيب كمرتكز لإعادة ترتيب المنطقة.

وقد شهدت هذه الزيارة توقيع صفقات اقتصادية وأمنية ضخمة، لكنها لم تكن سوى غطاء لتحركات سياسية أوسع، بدأت ملامحها تظهر تدريجيًا في ملفات حساسة مثل: تصفية القضية الفلسطينية، ضرب النفوذ الإيراني، وخلق محور عربي موالٍ للسياسات الأمريكية.

صفقة القرن كمقدمة لرسم خريطة جديدة

وفي صلب هذا المخطط الاستراتيجي، طرح الرئيس ترامب وصهره جاريد كوشنر ما عُرف بـ”صفقة القرن”، كأحد أبرز معالم إعادة تشكيل المنطقة. استهدفت هذه الصفقة تفكيك الدولة الفلسطينية، وتقزيمها جغرافيًا وسياسيًا، مقابل تقديم وعود اقتصادية شكلية. سعت الإدارة الأمريكية من خلال هذه المبادرة إلى إعادة ترتيب حدود بعض الدول، وفرض واقع يخدم تمكين إسرائيل كمركز إقليمي محوري.

كما مارست الولايات المتحدة ضغوطًا متزايدة على عدد من الدول العربية لدفعها نحو التطبيع، وأطلقت خطوات عملية لتحييد دور الأونروا، والسعي إلى تفريغ المخيمات الفلسطينية، تمهيدًا لتغييرات جذرية في ديموغرافية وجغرافية المنطقة.

خرائط النفوذ والتقسيم الناعم

من خلال رصد الوقائع بعد زيارة ترامب، يمكن ملاحظة ملامح ما يمكن تسميته بـ”التقسيم الناعم”، القائم على:

اللامركزية السياسية: كما في العراق وسوريا، حيث ظهرت كيانات شبه مستقلة (كردستان العراق، الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا).

التحالفات الأمنية الاقتصادية: مثل الناتو العربي، أو منتدى غاز شرق المتوسط، كآليات جديدة لتفكيك الاصطفافات الكلاسيكية.

الهويات الطائفية والإثنية: التي تُستخدم كأدوات لتغذية الانقسام، كما في اليمن ولبنان.

الأدوار الإقليمية والدولية المؤثرة

إيران: ترى في المخطط الأمريكي خطرًا على نفوذها، فدعمت حلفاءها في العراق وسوريا ولبنان كجدار صد لأي تقسيم جديد.

تركيا: تسعى لتثبيت نفوذها في شمال سوريا والعراق، وتعارض مشروع الدولة الكردية.

إسرائيل: المستفيد الأول من إعادة رسم الخريطة، خاصة عبر إضعاف الدول المجاورة وتمزيق الجبهة الفلسطينية.

روسيا والصين: تعارضان الهيمنة الأمريكية، لكنهما تمارسان سياسة توازن نفوذ وليس بالضرورة منع التقسيم.

ردود الأفعال العربية

في سياق تراجع الفعل العربي الجماعي، وباستثناء مواقف خجولة من بعض الدول، لم تشهد الساحة العربية ردًا استراتيجيًا موحدًا. بل انخرطت بعض الأنظمة في مسارات التطبيع والدعم الضمني للصفقة. غابت المقاربة الجماعية، وتراجعت أدوار الدول المركزية كمصر وسوريا والعراق، ما ساعد في تمرير بعض مراحل المشروع الأمريكي دون مقاومة تُذكر. وهذا ما يعكس حجم التباين بين الخطاب الرسمي والمواقف العملية، ويُبرز عمق الأزمة البنيوية في النظام العربي.

سيناريوهات مستقبلية محتملة

الأول – التفكك التدريجي: استمرار الأزمات الداخلية، وتكرار نماذج الحكم الذاتي، ما يؤدي لتآكل سلطة الدولة المركزية.

الثاني – تقسيم صلب: عبر إعلان كيانات جديدة مستقلة، بدعم دولي أو فرض أمر واقع.

الثالث – إعادة بناء النظام الإقليمي: بتحالفات عربية استراتيجية مضادة، تعيد الاعتبار للحدود السياسية الراهنة وتقاوم مشاريع التفكيك.

الاستنتاجات

في هذا الإطار، شكّلت زيارة ترامب محطة فاصلة في مسار إعادة تشكيل المنطقة. فالتقسيم لم يعد مشروطًا برسم خرائط جديدة، بل بات يُنفذ عبر ممارسات فعلية تُضعف بنية الدولة وتُجزئ مراكز النفوذ داخلها. ويزداد الأمر تعقيدًا مع استمرار غياب مشروع عربي جامع، ما يفتح الباب واسعًا أمام التدخلات الخارجية وصناعة واقع إقليمي جديد يخدم مصالح القوى الكبرى.

التوصيات

وانطلاقًا من التحديات الراهنة، تبرز الحاجة إلى مقاربة عربية جديدة تقوم على عدد من المرتكزات الأساسية، في مقدمتها: تعزيز التنسيق العربي الأمني والاستراتيجي خارج الأطر الغربية، ودعم الدول المهددة بالتفكك سياسيًا واقتصاديًا. كما ينبغي العمل على بناء خطاب إعلامي وثقافي مقاوم لفكرة التقسيم والتطبيع المشروط، إلى جانب تفعيل دور منظمات إقليمية مثل الجامعة العربية بشكل فعّال، بعيدًا عن الطابع البروتوكولي الذي طبع أدائها في العقود الأخيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى