مقالات

إحسان الفقيه تكتب: سر الصمود في غزة

يستعرض هذا المقال صمود أهل غزة وعزمهم في مواجهة التحديات، مؤكدًا على دور العقيدة في تحمل الصعاب والاستمرار في النضال. حيث يُسلّط الضوء على الصمود الفلسطيني وتأثيره النفسي والروحي في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

العقيدة والصمود – دروس من غزة

بعدما تحول النصر إلى هزيمة دامية للمسلمين في أحد، وجدها أبو سفيان بن حرب – وكان يومئذ على الشرك- فرصة سانحة ليتشفى من المؤمنين، فارتجز قائلا: “اُعْلُ هُبَلْ، اُعْلُ هُبَلْ، قال النبي صلَّى الله عليه وسلّم: «ألا تجيبوا له»، قالوا: يا رسول اللَّه، ما نقول؟ قال: “قولوا: اللَّه أعلى وأَجَلُّ “، قال: إنّ لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم، فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «ألا تجيبوا له؟»، قالوا: يا رسول اللَّه، ما نقول؟ قال: «قولوا اللَّه مولانا، ولا مولى لكم».

الله مولانا ولا مولى لكم، ليست مجرد كلمة تجري على اللسان، إنما هي عقيدة راسخة بمعيّة الله التي تظلل أهل الحق، فتحيل يأسهم إلى أمل وثقة، وتريهم في الضراء سبيلًا إلى السراء، يراوحون بين صبر وشكر، يطمئنون إلى المآلات مهما حلت بهم نوائب الدهر، لأنهم أولياء الله، وهو مولاهم وحسبهم، يصمدون ويطمئنون بما لديهم من إيمان بالله، وبإيمانهم بعدالة قضاياهم وحيازتهم للحق، وهو ما يرسّخ ويثبت أقدامهم.

“الله مولانا ولا مولى لكم”، هي سر صمود تلك الأرض التي أذهلت العالم بشعبها ومقاومتها، عن غزة أرض العزة نتحدث، عن أولئك القوم الذين نُفّذت ضدهم أكبر مؤامرات العصر، وأبشع مذابح هذا الزمان، يُقتلون، يُجوَّعون، يُعطَّشون، ويُخذلون من بني جلدتهم، وهم مع ذلك صامدون صابرون.

يُستخرجون من بين الأنقاض، وهم يرفعون السبابة قائلين: “اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى”، يشيعون شهداءهم وهم يقولون: “الحمد لله، رضينا يا رب”، تصير منازلهم أنقاضا وركامًا وهم يقولون: “هم معهم أمريكا وبريطانيا وفرنسا والصواريخ والطائرات، ونحن معنا الله”، يجوعون ويعطشون وهم يقولون: “لن نركع لغير الله”.

إنها العقيدة التي تتجاوز حسابات البشر في معايير النصر والهزيمة، العقيدة التي تجعلهم لا يرون إلا إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، ويتحركون انطلاقا من إيمانهم بأنهم أصحاب الحق.

في مطلع هذا الشهر، أفادت هيئة البث الإسرائيلية، بأن ثلاثة آلاف جندي إسرائيلي خضعوا لعلاج نفسي في قسم الطب النفسي التابع للجيش منذ بداية الحرب على غزة، وقالت إن أكثر من ألف جندي من القوات النظامية والاحتياط تلقوا علاجات مكثفة لاضطرابات نفسية.

تلك إحصائية إسرائيلية، لكن هناك أخبارًا تفيد بأن الذين تلقوا العلاج النفسي في الجيش الإسرائيلي منذ العدوان على غزة أكثر من ذلك بكثير، إذ أفادت قناة القاهرة الإخبارية في يناير الماضي أن تسعة آلاف جندي إسرائيلي حصلوا على العلاج النفسي، ولم يعد 20% منهم إلى القتال في غزة.

ووفقا لتقرير لقناة فرانس 24، اعتمد على جولة للقناة الفرنسية في أحد مراكز العلاج الإسرائيلية، حيث يُعالج مصابو الجيش في معارك غزة، ذكرت القناة أن الجنود الإسرائيليين المصابين يبكون داخل مراكز العلاج ما إن يحل الظلام، ولا يفارق السابع من أكتوبر أذهانهم.

وفي نهاية ديسمبر الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي إطلاق برنامج لمساعدة الجنود الذين يعانون الاضطرابات النفسية؛ وقالت صحيفة يديعوت أحرونوت إن البرنامج يهدف بالأساس للتعامل مع الميول الانتحارية للجنود، بينما حذر منتدى مديري مستشفيات الأمراض النفسية من ارتفاع حالات الإصابة بالأمراض العقلية والانتحار في صفوف الإسرائيليين.

أخبار تتدفق عن أمراض نفسية وعقلية وحالات انتحار وانهيار في صفوف جيش لديه من التسليح ما يفني به دولًا، يحارب شعبا لا يتعدى عدد سكانه 2.2 مليون نسمة.

وفي المقابل، نرى شخصية غزاوية مثل الصحفي الفلسطيني وائل الدحدوح، استشهد عدد كبير من أسرته بمن فيهم زوجته وابنته وولداه إضافة إلى حفيده الرضيع، ودُمر منزله، ثم أُصيب هو أكثر من مرة، واستشهد زميله المصور سامر أبو دقة أمام عينيه، ولاحقت المخابرات الإسرائيلية الناجين من أسرته، وفارقت أمه الحياة في بدايات الشهر الجاري.. كل ذلك يحصل معه وهو صابر محتسب، يؤدي رسالته في خضم هذه الأوجاع ويقوم بنقل حقيقة ما يجري في غزة إلى العالم، حتى لقب بـ “جبل غزة”، ثم تراه بعد ذلك كله في حوار على منصة أثير التابعة لشبكة الجزيرة، يتحدث بنفس هادئة مطمئنة فيقول: “كلمة السر لاحتمال أي صعب، أي معاناة، أي مصيبة، أي ابتلاء، أي اختبار، هو أن ترضى وتحتسب وتسلم أمرك لله سبحانه وتعالى”.

غزة بأهلها الصامدين، تجاوزت الحديث عن الأمراض النفسية والاكتئاب والاضطرابات النفسية، فأهلها متسلحون بتلك العقيدة التي جعلتهم يحتسبون معاناتهم، لعلمهم أنها طريقهم إلى التحرير في الدنيا، وإلى نيل الجزاء الأوفى عند الله في الآخرة.

هذا الصمود المدهش لا يكون إلا من خلال التشبع بهذه العقيدة، التي تفجر في الإنسان طاقات للتحمل والعمل ليست لدى غيره، هي ذاتها العقيدة التي خوّف بها القائد خالد بن الوليد أعداءه: “جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة”.

إن هذا الصمود لغزة وأهلها، مقابل هذا الهلع الصهيوني، يؤكد على أن إعداد الأفراد بالتربية على العقيدة والتعلق بالله سبحانه، يكون قبل بناء الجيوش، فالساعد الذي يمسك البندقية لن يفلح إذا كان ضعيفا مهتزًّا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights