تقاريرسلايدر

البصمة الجيوسياسية لإيران: قوة إقليمية أم منافس عالمي؟

منذ الثورة الإسلامية عام 1979، تأثرت السياسة الخارجية الإيرانية تأثرًا عميقًا بالمبادئ الأيديولوجية للجمهورية الإسلامية. حوّلت الثورة البلاد من ملكية موالية للغرب بقيادة الشاه محمد رضا بهلوي إلى جمهورية إسلامية مناهضة للاستعمار. وتتمحور الأيديولوجية الأساسية، كما صاغها المرشد الأعلى الراحل آية الله روح الله الخميني، حول مفهوم “المقاومة الإسلامية” ضد النفوذ الأجنبي، وخاصةً من القوى الغربية، وإقامة حكومة إسلامية تُشكّل نموذجًا يُحتذى به للعالم الإسلامي.

هذا الأساس الأيديولوجي هو ما يُحرك السياسة الخارجية الإيرانية، إذ تُصوّر نفسها مدافعةً عن الشعوب المُضطهدة، لا سيما في العالم الإسلامي، ومُعارضةً لهيمنة الولايات المتحدة وإسرائيل والنفوذ الغربي في المنطقة. تتجلى عقلية المقاومة هذه في دعم إيران لمختلف الجماعات السياسية والعسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، مثل حزب الله في لبنان، وحماس في فلسطين، ومختلف الميليشيات الشيعية في العراق وسوريا. صُممت هذه التحالفات لتحدي الهيمنة الإقليمية لخصوم إيران، وتعزيز مصالحها الاستراتيجية.

علاوة على ذلك، تتشكل السياسة الخارجية الإيرانية وفقًا لمبدأ “الاعتماد على الذات” والاستقلال الاستراتيجي. ويتجلى ذلك في إحجام البلاد عن الاعتماد الكامل على أي قوة، سواءً كانت الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين. وقد سعت إيران باستمرار إلى تنويع علاقاتها الدولية، وعقدت صفقات براغماتية مع مختلف القوى، مع الحفاظ على التزامها الأيديولوجي بالاستقلال والمقاومة.

الطموحات الإقليمية: الهيمنة في الشرق الأوسط

ترتبط طموحات إيران الإقليمية ارتباطًا وثيقًا برغبتها في الهيمنة على الشرق الأوسط، وهي منطقة حيوية لأسباب جيوسياسية واقتصادية. ويمنحها موقع إيران كجسر بين العالم العربي وآسيا الوسطى والقوقاز موقعًا استراتيجيًا فريدًا. ويمتد نفوذها عبر قوس شاسع، من شواطئ البحر الأبيض المتوسط ​​إلى الخليج العربي، وهذا العمق الجيوسياسي يُمكّنها من تحدي خصومها الإقليميين، ولا سيما المملكة العربية السعودية وإسرائيل.

يتجلى طموح إيران لترسيخ مكانتها كقوة مهيمنة في المنطقة في انخراطها في صراعات رئيسية، مثل الحرب الأهلية السورية، والصراع في اليمن، ودعمها لجماعات مختلفة في العراق ولبنان. في سوريا، قدمت إيران دعمًا عسكريًا حاسمًا لنظام الرئيس بشار الأسد، مما ضمن لها موطئ قدم في بلاد الشام، وأمن لها منفذًا إلى البحر الأبيض المتوسط. ويُعد هذا الانخراط جزءًا من استراتيجية إيران الأوسع نطاقًا للحفاظ على “محور المقاومة”، وهو تحالف يضم حزب الله في لبنان، ونظام الأسد، ومختلف الميليشيات الشيعية العراقية. ومن خلال هذا المحور، تهدف إيران إلى مواجهة النفوذ الإسرائيلي والغربي، لا سيما في سوريا ولبنان.

يُعد الصراع في اليمن مجالاً آخر تتدخل فيه مصالح إيران الاستراتيجية. ويُنظر إلى دعم إيران للمتمردين الحوثيين في اليمن على أنه امتداد لتنافسها مع المملكة العربية السعودية. ومن خلال دعمها للحوثيين، تسعى إيران إلى إضعاف نفوذ السعودية في شبه الجزيرة العربية وتعميق الانقسام الطائفي بين الفصائل السنية والشيعية في المنطقة. ولا تقتصر هذه الاستراتيجية على مواجهة النفوذ السعودي فحسب، بل تتحدى أيضاً المحور الأمريكي السعودي الأوسع الذي هيمن على المنطقة تقليدياً.

تنبع استراتيجية إيران الإقليمية أيضًا من رغبتها في حماية حدودها وضمان أمنها. ونظرًا لإرث الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي، لا تزال إيران حذرة من التهديدات الخارجية، وتعطي الأولوية للحفاظ على نفوذها في الدول المجاورة لإنشاء منطقة عازلة. لذلك، يُنظر إلى توسع النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان على أنه وسيلة لتأمين حدودها الغربية والحد من نفوذ القوى المعادية قرب حدودها.

إيران والشرق الأوسط: شبكة معقدة من التحالفات والتنافسات

دور إيران في الشرق الأوسط متعدد الأوجه ومثير للجدل. فسعيها لكسب النفوذ الإقليمي غالبًا ما يضعها في خلاف مع القوى العربية التقليدية، وخاصة الدول ذات الأغلبية السنية مثل المملكة العربية السعودية، التي ترى في النظام الإيراني ذي الأغلبية الشيعية تهديدًا للاستقرار الإقليمي. وقد أصبح التنافس بين إيران والسعودية سمة مميزة للجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، حيث تتنافس الدولتان على النفوذ في صراعات المنطقة، بما في ذلك اليمن وسوريا والعراق.

في سوريا، لطالما كانت إيران داعمًا قويًا لنظام الرئيس بشار الأسد، مقدّمةً له الدعم العسكري والمالي واللوجستي. وكان هذا جزءًا من استراتيجية إيران الأوسع نطاقًا للحفاظ على نفوذها الإقليمي والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. كما ساهم انخراط إيران في سوريا في ترسيخ مكانتها كلاعب رئيسي في “محور المقاومة”، وهو تحالف يضم إيران وحزب الله وحكومة الأسد، متحدًا ضد النفوذ الغربي والإسرائيلي.

يُقدم الوضع في اليمن مثالاً آخر على تورط إيران في صراعات النفوذ الإقليمية. فبينما يُعتقد على نطاق واسع أن إيران تدعم الحوثيين في اليمن، فإن هذا التورط جزء من هدفها الأوسع المتمثل في تقويض النفوذ السعودي وتأكيد هيمنتها في شبه الجزيرة العربية. ولم تقتصر عواقب الحرب الدائرة في اليمن على الجانب الإنساني فحسب، بل فاقمت أيضًا الانقسام السني الشيعي في المنطقة.

يُعدّ دعم إيران للجماعات الفلسطينية، بما فيها حماس والجهاد الإسلامي، مثالاً آخر على سياستها الخارجية الهادفة إلى تحدي النفوذ الإسرائيلي في المنطقة. وقد ساهم دعم إيران للجماعات الفلسطينية المسلحة في ترسيخ مكانتها كمعارض شرس للسياسات الإسرائيلية، مما زاد من تعقيد المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط.

علاقات إيران مع الولايات المتحدة والغرب

اتسمت علاقة إيران بالولايات المتحدة بانعدام الثقة والعداء المتبادلين. وقد شكّلت أزمة رهائن السفارة الأمريكية عام ١٩٧٩، وما تلاها من عقود من العقوبات والعزلة الدبلوماسية، طبيعة هذه العلاقة الثنائية. ترى إيران الولايات المتحدة خصمًا رئيسيًا، لا سيما بسبب دعمها لخصومها الإقليميين، مثل المملكة العربية السعودية وإسرائيل.

مع ذلك، كانت هناك لحظات من التفاعل. أبرز مثال على ذلك هو خطة العمل الشاملة المشتركة، التي مثّلت فترة وجيزة من ذوبان الجليد في العلاقات في عهد الرئيس باراك أوباما. وقد برهنت الصفقة على أن الدبلوماسية يمكن أن تُثمر نتائج حتى في ظل عداء عميق. وقد أدت حملة “الضغط الأقصى” التي شنتها إدارة ترامب، والتي سعت من خلالها إلى إجبار إيران على الامتثال من خلال العقوبات والتهديدات العسكرية، إلى إحباط أي أمل في المصالحة، بينما أعربت إدارة بايدن عن رغبتها في العودة إلى الاتفاق، رغم استمرار العقبات.

علاقة إيران بأوروبا أكثر تعقيدًا، إذ سعت الدول الأوروبية إلى الموازنة بين مصالحها الاقتصادية ورغبتها في احتواء طموحات إيران النووية. وبينما حافظ الاتحاد الأوروبي على دعمه للاتفاق النووي، أدى انسحاب الولايات المتحدة إلى توتر العلاقات وتعقيد جهود إنقاذه.

دور إيران في الجغرافيا السياسية العالمية

على الصعيد العالمي، تلعب السياسة الخارجية الإيرانية دورًا محوريًا في تشكيل توازن القوى الأوسع. بصفتها عضوًا في حركة عدم الانحياز وقوة إقليمية مؤثرة، سعت إيران إلى تحدي أحادية القطبية المتمثلة في الهيمنة العالمية للولايات المتحدة. وقد توطدت علاقات إيران مع الصين وروسيا في السنوات الأخيرة، لا سيما في مجالي التعاون العسكري والتجاري. وتوفر هذه التحالفات لإيران دعمًا بالغ الأهمية في مواجهة النفوذ الأمريكي والعقوبات الأمريكية.

اكتسبت علاقة إيران بالصين أهمية خاصة، حيث وقّع البلدان اتفاقية تعاون مدتها 25 عامًا تُركّز على التجارة والطاقة والأمن. تُمثّل الصين بالنسبة لإيران شريان حياة اقتصاديًا حيويًا، إذ تُقدّم بديلًا عن الأسواق والتكنولوجيا الغربية.

خاتمة

السياسة الخارجية الإيرانية تفاعلٌ معقدٌ بين الأيديولوجية والطموحات الإقليمية والدبلوماسية البراغماتية. وينبع منطق سياستها الخارجية من رغبتها في حماية سيادتها، ومقاومة النفوذ الأجنبي، وتأكيد وجودها كقوة إقليمية مهيمنة. وقد أتاحت استراتيجية إيران، القائمة على الاستفادة من التحالفات، وتعزيز النفوذ الإقليمي، وتبني تكتيكات مرنة، لها التعامل مع بيئة جيوسياسية مضطربة والحفاظ على موقعها في ميزان القوى. ومع استمرار تحول ديناميكيات القوة العالمية، من المرجح أن تواصل إيران تكييف استراتيجيتها لمواجهة التهديدات الخارجية، وتأكيد نفوذها، والحفاظ على استقلاليتها. وسيعتمد مستقبل السياسة الخارجية الإيرانية على قدرتها على الموازنة بين الضرورات الأيديولوجية والاعتبارات البراغماتية، بالإضافة إلى قدرتها على التعامل مع شبكة التحالفات والتنافسات المعقدة التي تُحدد النظام العالمي الحديث. وفي نهاية المطاف، سيظل دور إيران في ميزان القوى عاملاً حاسماً في تشكيل مستقبل الشرق الأوسط والجيوسياسية العالمية.

لا تزال السياسة الخارجية الإيرانية تتشكل بمزيج معقد من القناعات الأيديولوجية والاعتبارات البراغماتية. وقد دفعها سعيها للهيمنة الإقليمية، لا سيما في الشرق الأوسط، إلى مواجهة مباشرة مع منافسين مثل المملكة العربية السعودية وإسرائيل، بينما لا يزال برنامجها النووي نقطة اشتعال في علاقاتها مع الغرب. وسيعتمد مستقبل السياسة الخارجية الإيرانية على قدرتها على التعامل مع هذه التوترات، والحفاظ على تحالفاتها الاستراتيجية، والتكيف مع النظام العالمي المتغير. وبصفتها أحد أهم اللاعبين في الشرق الأوسط، ستظل لأفعال إيران عواقب بعيدة المدى على الجغرافيا السياسية الإقليمية والعالمية.


محمد جوني
مرشح دكتوراه في العلاقات الدولية، جامعة شهيد بهشتي، طهران ماجستير العلوم في الدراسات الاستراتيجية الكلية والأمن القومي والسياسة الخارجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights