بحوث ودراسات

خباب مروان الحمد يكتب: فقه أحكام الأمَّة

من أعظم القضايا التي يحتاجها طلبة العلم: (فقه أحكام الأمَّة)، وهو ما يتعلّق بأحوال الأحكام التي تجتمع فيها كلمة الأمَّة على مواجهة المصائب والنكبات، والالتقاء على قول فقهي معتبر عند المذاهب الفقهية المعتبرة.

خذ مثلاً على ذلك: حكم صلاة الغائب.

هذه مسألة خلافيّة معروفة في كتب الفقه، منهم من منعَ منها كالحنفية والمالكية، فاعتبروا صلاة الغائب خاصّة برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومنهم من أجازها، كالشافعية والحنابلة وذكروا لها قيدان، ومنهم من أجازها إذا كان الميت الغائب له شأن في الإسلام.

فهذه المسألة تتجدد في كلِّ مرَّة عقب حالة من الحالات التي تُصاب بها الأمة، إما بالصلاة على أحد العلماء الكبار الذين قضوا نحبهم، أو أحد المجاهدين، أو أحد القادة المؤثرين الصالحين، أو حين تحصل للأمَّة كارثة أو نكبة أو مجزرة تارةً بقتلٍ أو زلازل أو وباء أو غيرها ويموتُ بسبب ذلك خلقٌ كثير.

في حالةٍ كهذه يقترح بعض الفضلاء إقامة صلاة الغائب والصلاة على من قضى نحبه ممن ذكرنا، لكن قد يتغاضى المالكي أو الحنفي عن فعل ذلك أمامه، أو يقوم بصلاة الغائب لأبعادٍ قوية مصلحية تكون لديه أقوى من التمسك بقول مذهبه؛ فيأخذ بقول غيره من المذاهب الأخرى، ليكون هذا القول مساهماً في تحشيد وتكوين لجمع قلوب الأمّة على مبدأ يقومون به رفعة لأمر الإسلام، وإغاظة للأعداء، وجمعاً لقلب المسلمين بالتآلف والشعور بالمسؤولية، والشعور بالآخرين، وإظهار معنى التلاحم والتكاتف مع عموم المسلمين.

وهو بقيامه من إخوانه المسلمين بشأن ذلك، وحيثُ يسند بعضهم بعضاً وتظهر هذه المشاركات الجماعية الضخمة في صورة عبادة من العبادات التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الشرق والغرب كله على مؤدى واحدٍ يقومون بصلاة الغائب على الميت.

فأيُّ معنى سيكونُ له وقع تجاه إخوانهم من المسلمين الآخرين وهم يرون إخوانهم من أهل الإسلام قد قاموا وصلُّوا صلاة الغائب.

إزاء ذلك نجد الناس طرفان ووسط:

منهم من لا يرى إقامة صلاة الغائب ويشتد في ذلك نظراً للمذهب الفقهي الذي يتبناه.

ومنهم من يحتد ويشتد على من لم يصلي ويجعل ذلك جبناً أو خوراً أو موقفاً فكرياً تجاه الميت، وقد يكون ذلك فعلاً، وقد لا يكون.

لكنَّ الأولى في هذه الحالة انعطاف القلوب بعضها على بعض في حالة وجدانية يشترك بها المسلمون جميعاً لإظهار معنى التكاتف والتلاحم، زد إلى ذلك إظهار حالة الاعتداء أو الإجرام من العدو تجاه من قضوا نحبهم كشهداء غزَّة – نحسبهم كذلك -.

الأولى أن يلتفت المسلمون إلى فقهٍ لقضايا الأمة التي تجمعهم لتكون بينهم حالةٌ وجدانية، كيف ونحن اليوم صار القريب يعرف أخبار البعيد، وصرنا في قرية واحدة، لا يفوتنا شيءٌ مما يحصل بالمسلمين؛ وهذا يقتضي إثارة طلبة العلم لكوامن المسائل الفقهية التي لها صدى واسع وإظهار واضح لربط قلوب المسلمين بعضهم ببعض؛ وأن يعذر المتفقهة بعضهم بعضاً في حال إظهار معنىٍ فقهي أو قول فقهي يأخذ به المسلمون، ولعلَّ حالة كهذه تكون سبباً في تهيئة الأمّة لمعنى عظيم تجتمع عليه الأمة.

لقد قصّر المسلمون من أهل السنّة والجماعة في بيان الأحكام والمحددات والقضايا التي تجمع بعضهم بعضاً، ولربما جعلوا السنة سبباً لتفريق الجماعة، وما كانت السنّة إلا سبباً لتوحيد الجماعة، وهذا الشعور العظيم، جزءٌ منه قلبي وجداني، وجزء منه معرفي فكري، وجزء منه فقهي فيه سعة، وجزء منه تحقيق لمقصد قرآني نبيل في معنى قول الله تعالى: { وإنَّ هذه أمّتكم أمَّة واحدة}.

ولابد لهذه الأمَّة أن يكون بينها التقاء على قواسم مشتركة تجمعهم في وجدانهم وتصرفاتهم وتصوراتهم، بعد أن اتحدوا في معرفة ربهم وتوحيده وإقامة الفرائض الدينية، فلابد هنا من إقامة فقه الأمة، وفقه الكفايات، وفقه إظهار محاسن المسلمين في تخالقاتهم وتعاملاتهم.

وهذا يجعلنا نذكر عدة مسائل يمكن أن تنطبق عليها هذه القاعدة المذكورة، وهي:

1- دعاء قنوت النوازل. ففي المسألة خلافٌ فقهيٌ بين من يوسِّع ويُضيق؛ ولابد لفقهاء الأمَّة وطلبة العلم أن يكون لديهم توافق أو تطاوع في ذلك، وألا تضيق فئة تمنع من القنوت على من يرى ذلك ويوسع فيه طِبقاً للدليل بكل تأكيد.

2- إطلاق لفظ الشهيد، فهذه المسألة نجدها تُذكر عند بعض طلبة العلم حيث يشدد بعضهم على بعض في حال تعيين بعض الأسماء وإطلاق لفظ الشهيد عليهم؛ فالمسألة كذلك بحاجة إلى مرونة بين المتفقهة، وعدم تشدد في الإنكار، مع حفظ كلٍ منهم لحق الآخر في النقاش العلمي المحصور بين أركاناه وليس على الملأ !

3- زكاة الفطر. حيث يرى بعضهم أن الأفضل النقد وبعضهم يرى أن الأفضل قوت أهل المدينة، والأمر في ذلك يحتاج إلى توسعة وعدم إعضاض القول؛ فلكلٍ ما يرى طالما أن ذلك فيه نصرة للمسلمين.

4- نقل الزكاة من بلدٍ لآخر خاصة إذا كان أهل تلك البلاد بحاجة ماسة للمال؛ مع التوازن في حفظ حقوق أهل البلد التي يعيش فيها المزكي، إذ إنَّ دفع الزكاة لأهل بلدٍ آخر لا يُلغي حقوق أهل البلد من أصحاب الأوعية الزكوية، فالمسألة هذه فيها تعاون على البر والتقوى.

5- الأضحية أو دفع ثمنها للفقراء أو المعوزين خاصَّة إذا حلَّت ببلد نكبة وكربة كبيرة؛ فهذه المسألة وإن كان الأفضل فيها الأضحية؛ لكن لا ينبغي التشدد في ذلك طالما أن من يريد التقرب إلى الله يستطيع هذا وذاك فهو خير، وإن لم يستطع فليقدم الأضحية؛ فإن شقَّ عليه ولم يستطع فلا بأس عليه أن يتصدق بثمنها ويعطيه الفقراء والمنكوبين في الأرض؛ فقد قال تعالى: { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم}.

والفقه الإسلامي ما أتى إلاَّ لجمع قلوب المسلمين؛ فلئن كانت المذاهب الفقهية سبباً من الأسباب في بيان مرونة وسعة الفقه الإسلامي، وبيان أوجه الاختلاف في الأدلة؛ فإنّ هذه المذاهب هي الأكثر قدرة وعملاً وتطبيقاً في جمع قلوب المسلمين بعضهم مع بعض، ومن قرأ سيرة الفقهاء الربّانيين وعمل بعض فقهاء المذاهب بقول المذاهب الأخرى؛ تبيّن له أنَّ الفقه مادة أساسٌ في جمع قلوب المسلمين على معنى الجماعة؛ التي تبني بها جسور الثقة، ومن المقرر أنَّ كدر الجماعة أولى من صفو الفرقة.

وفي مقررات أئمة الفقه برهان ذلك، ومنه:

1- ذكر ابن تيمية في الفتاوى أنَّ الإمام أحمد سئل عمن رأى الإمام قد احتجم ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ؟ أتصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب.

2- صلى الشافعي رحمه الله الصبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت تأدباً معه وقال أيضاً: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق.

3- وألّف الإمام مالك الموطأ، وكان من أعلم الناس بأحاديث الصحابة وأقوال أهل المدينة، وفقهاء المدينة السبعة، وكان حريصاً في تأليفه حتى جلس فيه قرابة أربعين عاماً، ووافقه عليه أكثر من سبعين عالماً من علماء أهل الحجاز، ثم حيث طُلب منه أن يُحمل الناس على فقهه رفض، وقال لأبي جعفر المنصور: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هـذا، فإن الناس قد سبقت لهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وأتوا به من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم”.

4- أما السادة الحنفية فقد جاءت عنهم مواقف عديدة منها، القصة التي جرت لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة عندما استخلفه الخليفة في صلاة الجمعة فصلى بالناس ثم ذكر أنه كان محدثاً فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة فقيل له في ذلك فقال: “ربما ضاق علينا الشيء فأخذنا بقول إخواننا المدنيين”.

وقال أبو يوسف القاضي: “لو صلى الفجر خلف إمام يقنت يتابعه لئلا يخالف إمامه”.

وجاء في البزازيَّة في فقه الحنفيَّة: إنه روي عن أبي يوسف أنه صلى الجمعة مغتسلا من الحمام، ثم أخبر بفأرة ميتة في بئر الحمام، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا.

*****

ثبت في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ الله يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ”

قال الإمام النووي رحمه الله: “قوله: إن الله يرضى لكم ثلاثًا، فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتآلف بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام”.

خباب مروان الحمد

باحث في مركز آيات

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights