د. نصر فحجان يكتب: إلى الجنة زمرا

يقول الله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرًا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) الزمر: 73.
هذه الآية تبين لنا شكل وطريقة دخول المتقين للجنة، حيث يُساقون إلى الجنة في زُمَر وجماعات متجانسة متشابهة، وقبلها آيةٌ تحدثت عن كيفية دخول الكفار لجهنم، حيث يُساقون أيضًا إلى جهنم في زُمَر وجماعات متجانسة ومتشابهة: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرًا) الزمر: 71.
فما المُراد بكل من: (وسيق) و(زمرًا)؟
أوَّلًا: (وسيق):
الفعل: (ساقَه) أيْ: دفعَه من الخلف، ووجهه وحثَّه من خلفه على السير.
نقول: ساقت الريح السحاب، أيْ دفعته ووجهته، وساق الرجل ضيفه لحجرة الطعام، أيْ وجهه ودفعه من الخلف، وسيق المتهم إلى المحكمة: أيْ تم توجيهه ودفعه إلى إليها.
وقوله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرًا)، أيْ: قامت الملائكة باصطحاب المتقين وسَوْقِهم وتوجيههم إلى دخول الجنة من أبوابها الثمانية وقد فتحت لهم مُسبقًا: (وفتحت أبوابها)، فهُم لم يذهبوا إلى الجنة من تلقاء أنفسهم، وإنما بمرافقة ملائكة كرام يدُلُّونهم ويوجهونهم ويرحبون بهم.
والسَّوْق المذكور هنا هو سَوْق تكريم وكرامة، فالملائكة لا تكتفي بسَوق المتقين وتوصيلهم إلى أبواب الجنة، بل إنّ خزنة الجنة يفتحون لهم الأبواب قبل وصولهم، ويُشعرونهم بأنهم مُرحَّب بهم، وأنهم مكرَّمون وآمنون في دار السلام، وهو ما جاء في قوله تعالى: (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) الزمر: 73.
أما سَوْق الملائكة للكافرين فهو سَوْق إذلال وإهانة، فهم يُدَعُّون من خلفهم إلى نار جهنم دعًّا، كما في قوله تعالى:
(يوم يُدَعُّون إلى نار جهنم دعًّا * هذه النار التي كنتم بها تكذبون}
(الطور: 13-14)،
ويُقال لهم: {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} (الزمر: 72)
ثانيًا: (زُمَرًا):
(زُمرًا): جمع زُمْرة، وهي الجماعة المتجانسة من الناس الذين تربطهم صفات مشتركة، كأنْ نقول: زمرة من المجاهدين، وزمرة من الطلاب، وزمرة من النساء.
وقوله تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرًا)، أيْ إنّ الملائكة تسُوق عباد الله الذين اتقوا ربهم بعد الحساب إلى الجنة سَوْق تكريم، وهؤلاء المتقون سيكونون في زُمَر ومجموعات متجانسة تربطهم صفات متشابهة ومشتركة، وكل زُمْرة من هذه الزُّمَر يتم توجيهها وسَوْقُها من قِبَل الملائكة إلى بابٍ من أبواب الجنة، على النحو التالي:
للجنة ثمانية أبواب كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (… فإنّ للجنة ثمانية أبواب) السلسلة الصحيحة للألباني 2681، ولهذه الأبواب الثمانية أسماء، منها: باب الصلاة، وباب الجهاد، وباب الريَّان، وباب الصَّدَقة، وباب الصبر، وباب الرحمة، وباب البرّ، وباب التوبة، وهو ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (… فمَن كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة، ومَن كان من أهل الجهاد دُعِيَ من باب الجهاد، ومَن كان من أهل الصيام دُعِيَ من باب الريَّان، ومَن كان من أهل الصَّدَقة دُعِي من باب الصَّدَقة). صحيح البخاري 1897.
وكل زُمْرة من هذه الزُّمَر تُساق إلى باب من أبواب الجنة بحسب أعمالها وصفاتها، وما تميّزت به من أعمال في الدنيا، فالمُتّقون الذين يتشابهون في الصلاة، وكان أكثر ما ميَّزهم عن غيرهم الاجتهاد في الصلاة، ولم يكتفوا بالفرائض منها، بل اجتهدوا بالنوافل، فإنهم يُدعَوْن لدخول الجنة من باب الصلاة.
والمتقون الذين يتشابهون في أعمال الجهاد، هم من المُصلِّين أيضًا، ولكنَّ أكثر ما ميّزهم عن غيرهم الجهاد في سبيل الله تعالى، ولذا فهم يُدعَون لدخول الجنة من باب الجهاد.
وكذلك المتقون الذين تميّزوا عن غيرهم في الصيام، ولم يكتفوا بشهر رمضان، بل اجتهدوا في النوافل وصيام التطوع، فإنهم يُدْعَون لدخول الجنة من باب الريَّان.
والمتقون الذين يُدعَون لدخول الجنة من باب الصَّدَقة، هم من المصلين والصائمين، وقد يكونون من المجاهدين، ولكنّ أكثر ما ميّزهم عن غيرهم أنهم من أهل الصَّدَقة، وكذلك كل أبواب الجنة الأخرى.
وسيكون من المتقين مَن يحِق له دخول الجنة من أكثر من باب، لأنه يكون قد تميّز في أكثر من باب من أبواب البرّ، فيُدْعَى بحسب ما تميّز فيه، بل سيكون من المتقين مَن يحِق له أنْ يدخل الجنة من أيّ أبواب الجنة شاء من أبوابها الثمانية، لأنه تميّز في كل أبواب البرّ، فتجده متميّزًا في الصلاة، والجهاد، والصيام، والصدقة، والرحمة، والصبر، وكظم الغيظ، والعفو عن الناس، وغير ذلك، ومِن هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خيرٌ، فمَن كان من أهل الصلاة دُعِيَ من باب الصلاة، ومَن كان من أهل الجهاد دُعِيَ من باب الجهاد، ومَن كان من أهل الصيام دُعِيَ من باب الريَّان، ومَن كان من أهل الصدقة دُعِي من باب الصدقة، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على مَن دُعِيَ من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يُدعَى أحد من تلك الأبواب كلّها؟ قال: نعم، وأرجو أنْ تكون منهم) صحيح البخاري 1897، وقوله عليه السلام: (وأرجو أنْ تكون منهم) يدلّ على أنّ الأمر لا يقف عند أبي بكر رضي الله عنه، بل سيكون هو واحدًا منهم، والأمر متاح لكل مَن يتميّز في كل أبواب البرّ والخير، ليُدعَى من كل أبواب الجنة.
والمرأة المسلمة التقيَّة التي تحفظ دينها وأمانتها، لها الحق أيضًا أنْ تدخل الجنة من أيّ الأبواب شاءت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلَّت المرأة خَمْسَها، وصامت شهرها، وحصَّنت فَرجَها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أيّ أبواب الجنة شئتِ) صحيح الجامع 660.
وعن عبادة بن الصامت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن قال: أشهد أنْ لا إله إلا الله لا شريك له، وأنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنّ عيسى عبدُ الله، وابنُ أَمَتِه، وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأنّ الجنة حق، وأنّ النار حق، أدخله الله من أيّ أبواب الجنة الثمانية شاء) صحيح مسلم 28، فالمتقون سيدخلون الجنة من أبواب مختلفة، وسيكونون في زُمَر متجانسة، تربط بينها صفات مشتركة، وبإمكان كل واحد منا أن يكون منهم فيختار الباب الذي يريد.
وما ينطبق على المتقين في دخولهم الجنة من أبوابها الثمانية بحسب أعمالهم وتميّزهم، فإنه ينطبق على الكافرين الذي سيدخلون جهنم من أبوابها السبعة: {وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم} (الحجر: 43-44)، فكل زُمرة من الكافرين لها تجانس خاص، وصفات خاصة مشتركة، تتناسب مع أبواب جهنم السبعة، ويقال لهم جميعًا: (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) الزمر: 72.