في قلب زحام القاهرة، يجلس محمد (42 عامًا) أمام عربة صغيرة تفيض بالتمور الطازجة. بعد عشرين عاماً في ورشة أثاث أغلقت أبوابها خلال الجائحة، وجد نفسه فجأة ضمن جيش العمالة غير النظامية الذي يتوسع بلا توقف. قصته ليست مجرد حكاية فردية، بل هي تجسيد حي لأهم تحول في سوق العمل العالمي خلال العقد الماضي: صعود العمالة غير النظامية من الهامش إلى مركز المشهد الاقتصادي.
من التفوق إلى الانقلاب: رحلة عقد من الزمن
تشير البيانات إلى أن بداية العقد الماضي (حوالي 2014) شهدت تفوقاً طفيفاً لنمو العمالة النظامية – تلك المرتبطة بعقود رسمية، وضمانات اجتماعية، ورواتب ثابتة – على نمو العمالة غير النظامية. كان الاقتصاد العالمي يتعافى ببطء من أزمة 2008، وكانت الوظائف “المنظمة” تمثل مساراً مرغوباً للاستقرار. لكن هذه الصورة بدأت في التشقق تدريجياً قبل أن تنقلب رأساً على عقب تحت وطأة حدث غير مسبوق: جائحة كوفيد-19.
فجأة، تحولت رياح النمو. بين عامي 2014 و2024، قفز حجم العمالة غير النظامية حول العالم بنسبة مذهلة بلغت 13.7%. في المقابل، وعلى الرغم من مسارات النمو في قطاعات التكنولوجيا والخدمات المتخصصة، لم تستطع العمالة النظامية مجاراة هذا الزخم، حيث سجلت نمواً بنسبة 12.6% خلال نفس الفترة. هذا الفارق (1.1%) ليس مجرد رقم إحصائي جاف، بل يمثل ملايين البشر – مثل محمد – انتقلوا من هامش الاقتصاد إلى قلب ديناميكيته، غالباً بدافع الضرورة لا الاختيار.
كوفيد-19: المحفز الأكبر للتحول
كانت الجائحة بمثابة الزلزال الذي أعاد رسم خريطة العمل العالمية:
طرد جماعي وتقلص أنشطة: أغلقت آلاف الشركات أبوابها أو قلصت أنشطتها، خاصة في قطاعات الضيافة، السفر، البيع بالتجزئة التقليدي، والتصنيع. وجد ملايين العاملين النظاميين أنفسهم فجأة بلا دخل.
انفجار اقتصاد “الضرورة”: لسد رمق العيش، تحول هؤلاء إلى أي عمل متاح: بيع سلع في الشارع، تقديم خدمات يدوية أو منزلية، العمل في الزراعة الموسمية، أو الانخراط في منصات العمل الحر الرقمية بدون عقود مستقرة. أصبح القطاع غير الرسمي شريان حياة.
مرونة القطاع غير الرسمي: بينما عانت الشركات النظامية من الإجراءات البيروقراطية والقوانين الصارمة للاستمرار أو التعديل، استطاع القطاع غير الرسمي التكيف بسرعة فائقة مع الظروف المتغيرة، مستفيداً من غياب الإطار الرسمي الذي يعتبره الكثيرون عبئاً في الأزمات.
صعود العمل الحر والمنصات: شهدت منصات العمل الحر عبر الإنترنت (Gig Economy) نمواً هائلاً خلال الجائحة وما بعدها. بينما توفر هذه المنصات فرصاً للدخل، فإنها غالباً ما تضع العاملين في منطقة رمادية بين النظامي وغير النظامي، دون ضمانات كافية.
أين وكيف؟ جغرافيا وقطاعات الصعود
لم يكن النمو متساوياً:
الاقتصادات النامية والناشئة: شهدت أعلى معدلات نمو للعمالة غير النظامية، حيث يشكل هذا القطاع أساساً أصلاً لنسبة كبيرة من الاقتصاد (تصل أحياناً لأكثر من 70%). الجائحة ضاعفت الضغوط وزادت الاعتماد عليه. دول مثل الهند، البرازيل، نيجيريا، ومصر شهدت توسعاً ملحوظاً.
الاقتصادات المتقدمة: لم تكن بمنأى. فقد شهدت أيضاً ارتفاعاً في العمل غير الرسمي، خاصة في شكل وظائف بدوام جزئي بدون عقود، وعبر منصات العمل الحر، والعمل المؤقت.
القطاعات الأكثر نمواً: البيع المتجول، النقل غير الرسمي (تطبيقات توصيل الأفراد والطعام بدون تنظيم كامل)، الخدمات المنزلية واليدوية، الزراعة الموسمية، إعادة التدوير غير الرسمي، والصناعات الحرفية الصغيرة.
التداعيات: بين المرونة والهشاشة
يطرح صعود العمالة غير النظامية معضلات عميقة:
الجانب الإيجابي: المرونة والبقاء: أثبت القطاع غير الرسمي قدرة هائلة على امتصاص الصدمات وتوفير فرص دخل سريعة في أوقات الأزمات، مما حمى ملايين الأسر من السقوط في براثن الفقر المدقع. وهو يمثل محركاً حقيقياً للابتكار والحيوية الاقتصادية في القاعدة.
الجانب السلبي: فجوة الحماية والهشاشة:
غياب الضمانات: حرمان العمال من التأمين الصحي، المعاشات التقاعدية، إجازات مرضية أو سنوية مدفوعة الأجر.
انعدام الأمن الوظيفي: عدم الاستقرار، الدخل المتقلب، التعرض للاستغلال وسوء المعاملة.
انخفاض الإنتاجية: صعوبة الوصول للتمويل، التكنولوجيا، والتدريب يحد من قدرة هذه الأنشطة على النمو والابتكار المستدام.
خسارة الإيرادات الحكومية: صعوبة تحصيل الضرائب والاشتراكات من هذا القطاع الواسع والمتناثر.
تحديات الإحصاء: صعوبة قياس حجم وتأثير هذا القطاع بدقة، مما يعيق التخطيط الفعال.
المستقبل: تحديات الحوكمة والدمج
يستمر الجدل حول كيفية التعامل مع هذه الظاهرة المتعاظمة:
التنظيم الصارم أم التهميش؟ محاولات قمع القطاع غير الرسمي غالباً ما تفشل وتدفعه لمزيد من الخفاء، مسببة مشاكل أكبر.
نحو “تصنيف رسمي”: تتبنى منظمات دولية ودول نهجاً يركز على “الدمج التدريجي” و”التصنيف الرسمي”. يتضمن ذلك:
تبسيط إجراءات تسجيل المشاريع الصغيرة جداً.
توفير أنظمة ضريبية مبسطة وتصاعدية.
تطوير أنظمة حماية اجتماعية مبتكرة تغطي العمال غير النظاميين (مثل أنظمة تستند للاشتراكات الطوعية أو ممولة جزئياً).
تسهيل وصولهم للتمويل الأصغر والتدريب والتكنولوجيا.
تنظيم عمل المنصات الرقمية لضمان معايير دنيا للعمال.
ضرورة الإرادة السياسية: يحتاج تنفيذ هذه الحلول إلى إرادة سياسية قوية واعتراف بأهمية القطاع غير الرسمي كشريك في التنمية الاقتصادية، وليس مجرد مشكلة يجب إزالتها.
الخلاصة: واقع جديد يتطلب رؤية جديدة
إن الفارق البالغ 1.1% في نمو العمالة غير النظامية مقابل النظامية بين 2014 و2024 ليس مجرد نقطة بيانات. إنه إشارة دامغة على تحول عميق في طبيعة العمل والاقتصاد العالمي. لقد أظهرت الأزمات، وخاصة جائحة كوفيد-19، أن العمالة غير النظامية ليست شذوذاً، بل هي مكون مركزي ومرن في نظامنا الاقتصادي، وإن كان هشاً. مستقبل العمل لا يتعلق فقط بتقنيات الذكاء الاصطناعي والوظائف الرقمية الراقية، بل يتعلق أيضاً بكيفية معالجة واقع ملايين “الـ محمد” حول العالم الذين يبنون اقتصادهم من عرباتهم الصغيرة وورشهم المنزلية غير المسجلة. تجاهل هذا الواقع أو محاولة قمعه لم يعد خياراً. التحدي الحقيقي يكمن في كيفية تحويل هذه القوة الهائلة للعمالة غير النظامية من اقتصاد ضرورة وبقاء، إلى اقتصاد كرامة واستدامة، مع الاعتراف بمساهمتها الحيوية وإدماجها في منظومة اجتماعية واقتصادية أكثر عدلاً وإنصافاً. مستقبل سوق العمل يعتمد على هذه الرؤية.