الأمة: يأتي كتاب “المواجهة الثقافية وإعادة تشكيل الوعي الإنساني” للباحث والناقد د.سلطان المعاني، ليضع بين أيدينا دراسة معمقة تضيء على ظاهرة المواجهة الثقافية، بمظاهرها المختلفة: الصراع، التبادل، الاستيعاب (الذوبان)، والمقاومة، ويضيء على مواضيع يمكن عدها ابنة الساعة .
حيث يشهد العالم اليوم حالة غير مسبوقة من الانفتاح والتداخل الثقافي بفعل ثورة الاتصالات والتكنولوجيا، وتزايد موجات الهجرة، واتساع نطاق العولمة، وبروز سؤال الهوية الذي يدور حول الكيفية التي يمكن من خلالها للإنسان الحفاظ على خصوصيته الثقافية ومكوناته الحضارية.
يتضمن الكتاب الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون”، بالأردن (2025)، دراسات ثقافية معمقة، تحاول أن ترصد وتحلل الفرص الكامنة في التفاعل الحضاري الراهن، وهنا يرى الباحث أن المواجهة الثقافية ليست مجرد احتكاك عابر بين أنماط حضارية، بل هي عملية ديناميكية مستمرة تتأثر بعوامل القوة والهيمنة من جهة، والانفتاح والممانعة من جهة أخرى،
ففي عالم يتسارع فيه الإيقاع الحضاري، يطرح الكتاب تساؤلات جوهرية حول جدلية الأصالة والانفتاح: هل يؤدي التفاعل مع الآخر إلى إثراء التجربة الإنسانية أم إلى تآكل الهوية المحلية؟ وهل تستطيع الشعوب الضعيفة ثقافياً أن تحافظ على خصوصيتها في مواجهة المدّ الإعلامي والاستهلاكي القادم من المراكز العالمية الكبرى؟
جاء الكتاب في مقدمة نظرية وخاتمة وتسعة عشرة فصلاً ناقشت: “الصراع الثقافي”، و”التبادل الثقافي”، و”الاستيعاب الثقافي”، و”المقاومة الثقافية”، و”الهيمنة الثقافية”، و”العولمة”، و”الهجرة والتنوع العرقي”، و”الاستعمار والتأثير الغربي ودوره في فرض الثقافات”، و”تأثير الثورة التكنولوجة على انتشار المعلومات والثقافة العالمية”،
و”آثار الموجهة الثقافية”، و”تلاقح الثقافات وتعزيز الإبداع والابتكار”، و”مفهوم التنوع الثقافي”، و”فقدان الهوية الثقافية في المجتمعات”، و”تصاعد النزعات الأيديولوجية والدينية”، و”انتشار القيم الاستهلاكية وتقليد الثقافات”، و”إدارة المواجهة الثقافية”، و”التعليم الثقافي واحترام التنوع”، و”حماية الهويات الثقافية والانفتاح”، وبناء مجتمع عالمي متماسك”.
ناقش الكتاب جذور الصراع الثقافي بوصفه مظهراً من مظاهر التوتر الاجتماعي الناتج عن تضارب القيم والهويات، واستعرض نماذج من المواجهات التي نشأت بين الحضارات الكبرى، مثل الصراع الغربي-الإسلامي، والخلافات بين الهندوس والمسلمين في شبه القارة الهندية، مروراً بالحروب ذات الخلفيات العرقية والدينية كحرب البوسنة والهرسك..
ويرى المعاني أن الصراع لا يقتصر على مستوى الشعوب أو الحضارات، بل يتخذ بعدا داخلياً يظهر في الانقسام بين التقليديين والحداثيين داخل المجتمع الواحد، حيث يتمسك البعض بالموروث، بينما ينجذب آخرون إلى أنماط العيش الحديثة، وهذه الازدواجية، كما يرى الباحث، تكشف عن أن الصراع ليس دائماً خارجياً، بل قد ينشأ من الداخل حين تعجز المجتمعات عن التوفيق بين الأصالة ومتطلبات العصر.
وبالانتقال إلى الوجه الآخر للتفاعل الحضاري، يرى د.سلطان المعاني أن التبادل الثقافي يثري التجربة الإنسانية ويمنحها بعداً عالمياً، ويعرض أمثلة حية على ذلك، بدءا من التداخل اللغوي (مثل انتشار الكلمات الإنجليزية في العربية أو العكس)، وصولاً إلى الفنون والأزياء والمأكولات كالبيتزا الإيطالية، والسوشي الياباني، والجينز الأمريكي.. وكلها تحولت إلى رموز عالمية تتجاوز حدودها الأصلية.
خطورة الذوبان الثقافي ..
كما يناقش الباحث التأثير الكبير للفنون والإعلام، حيث أصبحت الدراما التركية، أو موسيقى الكي-بوب الكورية، أو السينما الأمريكية، عناصر فاعلة في تشكيل الذوق العالمي، مشيراً إلى أن هذا التبادل، رغم فوائده، يحمل جانباً مظلماً يتمثل في الهيمنة الثقافية التي قد تجعل بعض الشعوب مجرد مستهلكة للثقافات الأقوى دون مساهمة حقيقية في الإنتاج.
ومن هنا، يناقش الباحث مفهوم الذوبان الثقافي، بوصفه أحد أخطر أشكال المواجهة، حين تخضع ثقافة ضعيفة لنفوذ ثقافة مهيمنة فتنصهر فيها تدريجيا،
ويوضح المعاني أن الذوبان قد يكون طوعياً بدافع الانجذاب إلى قيم جديدة، أو قسرياً بفعل الاستعمار والهيمنة السياسية والإعلامية، ويستعرض في هذا الإطار نماذج من التاريخ، مثل سياسات الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وآسيا، أو فرض اللغات الأجنبية على الشعوب المستعمَرة،
كما يناقش ظاهرة فقدان اللغة الأم لدى أبناء المهاجرين في أوروبا وأمريكا، وما تخلّفه من أزمات هوية واغتراب ثقافي، ويرى أن أخطر ما في الذوبان هو تحوّل الشعوب إلى مجرد مستهلكة لأنماط استهلاكية تفقد معها أصالتها واستقلالها الحضاري.
ضرورة المقاومة الثقافية ..
وهذا ما قاد الباحث لنقاش مفهوم المقاومة الثقافية على اعتبار أنها رد الفعل الطبيعي للحفاظ على الهوية في مواجهة التحديات. والمقاومة، كما يوضح الباحث، ليست مجرد رفض للآخر، بل هي وعي بالذات، يتمثل في التمسك باللغة الأم، وإحياء التراث، وتشجيع الإنتاج المحلي في الأدب والفنون والإعلام،
ويستعرض أشكالاً متعددة للمقاومة، منها: أن يركز التعليم والمناهج على القيم الوطنية، وأن تُعَزز المبادرات الشبابية التي تدعم القراءة بالعربية أو ارتداء اللباس التقليدي، وأن تحد السياسات الحكومية من تأثير المحتوى الثقافي الأجنبي.
ويخلص الباحث المعاني إلى أن المقاومة الثقافية، إذا ما أُديرت بوعي وانفتاح، قادرة على أن تتحول إلى قوة إيجابية تعزز التعددية وتضمن استمرار الهويات الأصيلة،
ومن هنا نجد أن د.سلطان لا ينظر إلى المواجهة الثقافية بوصفها صراعاً صفرياً بين “الأنا” و”الآخر”، بل بوصفها ظاهرة مركبة يمكن أن تكون مصدراً للإثراء أو للتهديد، بحسب كيفية إدارتها.
